[قاعدة: كل من استكبر عن عبادة الله فلابد أن يعبد غيره ويذل له]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولهذا كان شعار الصلوات والأذان والأعياد هو التكبير، وكان مستحباً في الأمكنة العالية كالصفا والمروة، وإذا علا الإنسان شرفاً أو ركب دابة ونحو ذلك، وبه يطفأ الحريق وإن عظم، وعند الأذان يهرب الشيطان، قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:٦٠]، وكل من استكبر عن عبادة الله فلا بد أن يعبد غيره ويذل له].
هذه قاعدة مهمة جداً، وتشبه القاعدة التي سبق أن أشرنا إليها، والدلائل الشرعية والطبيعية الإنسانية تشهد بها، وهي: كل من استكبر عن عبادة الله فلا بد أن يعبد غيره ويذل له، فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة، فهذه قاعدة من أهم القواعد في هذا الباب، فالإنسان لابد أن يكون عابداً، ولا تتخيل أبداً وجود إنسان خال من العبودية، ولهذا فالغربيون الذين جاءوا بدعوى الحرية والعتق من الأديان هم في الحقيقة هربوا من أديان معروفة وعبدوا الشيطان، وعبدوا النفس الأمارة بالسوء فلا يمكن للإنسان إلا أن يكون عابداً.
والسبب في هذا، والمستند الحقيقي لهذا هو ما أشار إليه الشيخ عندما قال: فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة، فإن أفعال الإنسان التي تحصل لابد فيها من وجود إرادة قلبية، ومن وجود قدرة تنقل هذه الإرادة إلى العمل.
فالإرادة القلبية الموجودة في نفس الإنسان تقتضي وجود مراد، ولا يمكن أن تكون إرادة بدون متعلق يريده الإنسان، فإن كان متعلقه الله عز وجل كانت هذه العبودية لله عز وجل، وإن كانت غير الله فإنه يكون عابداً لهذا الغير.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكل من استكبر عن عبادة الله فلا بد أن يعبد غيره ويذل له، فإن الإنسان حساس ويتحرك بالإرادة، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أصدق الأسماء حارث وهمام)، فالحارث: الكاسب الفاعل، والهمام: فعال من الهم، والهم أول الإرادة، فالإنسان له إرادة دائماً، وكل إرادة فلا بد لها من مراد تنتهي إليه، فلا بد لكل عبد من مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته، فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته بل استكبر عن ذلك، فلا بد أن يكون له مراد محبوب يستعبده غير الله، فيكون عبداً ذليلاً لذلك المراد المحبوب: إما المال وإما الجاه وإما الصور، وإما ما يتخذه إلهاً من دون الله كالشمس والقمر والكواكب والأوثان وقبور الأنبياء والصالحين، أو من الملائكة والأنبياء الذين يتخذهم أرباباً، وغير ذلك مما عبد من دون الله.
وإذا كان عبداً لغير الله يكون مشركاً، وكل مستكبر فهو مشرك، ولهذا كان فرعون من أعظم الخلق استكباراً عن عبادة الله وكان مشركاً، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [غافر:٢٣ - ٢٤] إلى قوله: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:٢٧] إلى قوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:٣٥].
وقال تعالى: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} [العنكبوت:٣٩]، وقال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص:٤]، إلى قوله: {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل:١٤]، ومثل هذا في القرآن كثير.
وقد وصف فرعون بالشرك في قوله: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:١٢٧]، بل الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكباراً عن عبادة الله كان أعظم إشراكاً بالله؛ لأنه كلما استكبر عن عبادة الله ازداد فقراً وحاجةً إلى مراده المحبوب الذي هو مقصود القلب بالقصد الأول، فيكون مشركاً بما استعبده من ذلك.
ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه، ولا يستعين إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه، ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه، ولا يوالي إلا من والاه الله، ولا يعادي إلا من عاداه الله، ولا يحب إلا لله، ولا يبغض شيئاً إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، فكلما قوي إخلاص حبه ودينه لله كملت عبوديته واستغناؤه عن المخلوقات، وبكمال عبوديته لله تكمل براءته من الكبر والشرك.
والشرك غالب على النصارى، والكبر غالب على اليهود، قال الله تعالى في النصارى: {