[حقيقة الجهاد]
قال: [والجهاد: هو بذل الوسع وهو القدرة في حصول محبوب الحق، ودفع ما يكرهه الحق، فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد كان دليلاً على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه.
ومعلوم أن المحبوبات لا تنال غالباً إلا باحتمال المكروهات، سواء كانت محبة صالحة أو فاسدة، فالمحبون للمال والرئاسة والصور لا ينالون مطالبهم إلا بضرر يلحقهم في الدنيا، مع ما يصيبهم من الضرر في الدنيا والآخرة، فالمحب لله ورسوله إذا لم يحتمل ما يرى ذو الرأي من المحبين لغير الله مما يحتملون في حصول محبوبهم، دل ذلك على ضعف محبتهم لله، إذ كان ما يسلكه أولئك هو الطريق الذي يشير به العقل].
هذا بيانٌ في أن الإنسان إذا أحب فإنه يضحي من أجل محبوبه، سواء كان المحبوب رئاسة أو صورة أو مالاً أو غير ذلك، وقد يتلف بسبب هذه التضحية، وهذا إذا كان المحبوب محبوباً غير شرعي.
فإذا كان المحبوب شرعياً فالتضحية من أجله لازمة، وهي علامة على صدق هذه المحبة وعلى وجودها وقوة الإرادة فيها، وقد يحتمل الإنسان المكاره والمشاق في سبيل الله عز وجل، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سيد الشهداء: حمزة، ورجل جاء إلى حاكم ظالم فأمره ونهاه فقتله)، يعني: أنه صبر على القتل، والصبر على القتل ليس أمراً هيناً ولا سهلاً.
وهذا يدل على علو محبة الله عز وجل في نفس المجاهد في سبيل الله، وفي نفس المحتسب والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وهكذا الحال فيما يتعلق بالتعبد لله.
وعندما يكون الجو شديد البرودة، أو الماء بارداً وليس هناك سخانة تسخن بها الماء، وأراد الإنسان أن يتوضأ، فإذا لم يكن هناك محبة في قلبه لله عز وجل فإنه لا يستطيع أن يقوم من نومه ويضع الماء على جسده، لكن إذا قام من نومه وتوضأ بالماء البارد فإنه يدل على علو المحبة في قلبه لله سبحانه وتعالى.
قال: [ومن المعلوم أن المؤمن أشد حباً لله كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:١٦٥].
نعم، قد يسلك المحب لضعف عقله وفساد تصوره طريقاً لا يحصل بها المطلوب، فمثل هذه الطريق لا تحمد إذا كانت المحبة صالحة محمودة].
أي: لابد للمحبة من أمرين: الأمر الأول: صحة المحبة وقوتها، والأمر الثاني: صحة الطريق إلى المحبوب.
وهذا أمر مهم؛ لأنه أحياناً قد تجد أشخاصاً يضحون تضحيات بالغة وقد تكون بأنفسهم، لكن الطريق الذي ظنوا أنه يوصل إلى محبوبهم عز وجل لم يوفقوا فيه إلى الصواب.
ولهذا ينبغي للإنسان أن يجمع بين أمرين: الأمر الأول: قوة المحبة لله، وهي تساوي الإخلاص في باب صحة العمل، والأمر الثاني: أن يكون الطريق الموصل إلى الله عز وجل طريقاً صحيحاً، وهو يساوي محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ومتابعته.
وهذا يدلنا على أهمية العلم، فالحماس والمحبة والتضحية والإرادة القوية مطلوبة، لكنها وحدها ليست كافية ولا بد فيها من علم، وهو بمثابة العقل المدبر لهذه الأمور، فلابد فيها من علم يضبط الإنسان حتى يقع على الطريق المستقيم الموصل الصحيح الذي لا اعوجاج فيه، وينبغي إدراك هذه القضية، وهذا من تنبيهه رحمه الله، وهو ربط لهذا الموضوع باتباع السنة، فإن المحبة تورث الحماس في القلب والتعلق بالله، وتورث قوة الإيمان في القلب، والاندفاع نحو الطاعة، لكن إذا لم يكن هناك طريق صحيح يسلكه فإنه يتخبط، فإذا تخبط ظن أنه في تخبطه هذا موافق لشرع الله عز وجل.
والخوارج نموذج عجيب في أشخاص يملكون حماساً قوياً، ويملكون اندفاعاً ويملكون شجاعة وقوة كما جاء في وصفهم في الحديث في خبر ابن عباس: بين وجوههم مثل ركب المعزاء من السجود.
ومع هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وقراءتكم إلى قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، وسماهم النبي صلى الله عليه وسلم: كلاب النار، وقال: (لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد)، وهذا يدل على خطورة الخوارج، وهي الفرقة الوحيدة التي جاءت فيها أحاديث صريحة وكثيرة من النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها ثبتت عن عشرة من الصحابة، كما قال الإمام أحمد، وهذا يدل على خطورة الغلو، وخطر الخوارج.
فالخوارج يكفرون أهل الإسلام، ويقاتلون المسلمين، ويدعون أهل الأوثان والكفار، ففي زمن علي بن أبي طالب جاءوا إلى عبد الله بن خباب بن الأرت، وهو تابعي جليل، وابن صحابي جليل، فأمروه بالالتزام بعقيدته، وسألوه عن رأيه في عثمان وعلي فقال بالحق فقتلوه، وبقروا بطن جاريته التي كانت معه وألقوها في النار، فهذا يدل على العنف والشدة في التعامل، مع أن القضية التي سألوا عنها لا تستحق كل هذه العقوبة، ولما رأوا رجلاً ذمياً عظموه وأجلوه ووقروه، فهؤلاء لا يكرهون أصحاب النبي صلى الله