[وصف كرام الخلق بالعبودية]
وأما الأمر الثالث فهو وصف كرام الخلق بالعبودية، يقول: وبذلك وصف ملائكته وأنبياءه، فقال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:١٩ - ٢٠].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:٢٠٦].
وذم المستكبرين عنها بقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:٦٠].
ونعت صفوة خلقه بالعبودية، وهذا تابع لنفس الموضوع، فقال تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان:٦]، فإنه وصفهم بأنهم عباد الله، والإضافة على نوعين: إضافة تشريف، وإضافة خلق وإيجاد، فهنا الإضافة إضافة تشريف؛ لأن الحديث عن أهل الجنة.
وقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:٦٣]، ولما قال الشيطان: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:٣٩ - ٤٠] قال الله تعالى: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:٤١ - ٤٢].
وقال في وصف الملائكة بذلك: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وًَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:٢٦ - ٢٨].
وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:٨٨ - ٩٥].
فهذه الآيات جميعاً وصف الله عز وجل فيها كرام الخلق من الأنبياء ومن الصالحين والملائكة بأنهم عابدون لله عز وجل، وهذا يدل على فضل العبودية، وأهميتها، فإنه إذا وصف بالشيء أفضل المخلوقات، دل ذلك على مكانته منزلته وأهميته.
وقال تعالى عن المسيح الذي ادعيت فيه الإلهية والبنوة: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف:٥٩]، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا تطروني -يعني: لا تبالغوا في المدح والثناء علي- كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله).
وقد أطرت النصارى المسيح فوق درجة العبودية ظناً منهم أن درجة العبودية درجة عادية ويسيرة، والواقع أن درجة العبودية درجة كبيرة، ولهذا ادعوا أنه إله، وادعوا أنه ابن للإله، يريدون أن يعظموا المسيح لمكانته في قلوبهم، لكنهم ضلوا بهذه الطريقة.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خيرت بين أن أكون ملكاً نبياً أو أكون عبداً رسولاً، فاخترت أن أكون عبداً رسولاً) فمن أعظم المقامات العبودية لله عز وجل، وقد نعته الله بالعبودية في أكمل أحواله، فقال في الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء:١].
لأن الإسراء مقام عظيم بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وقال في الإيحاء: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:١٠].
وقال في الدعوة: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:١٩].
وقال في التحدي: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:٢٣].