[غلاة الصوفية الذين يحتجون بالقدر في كل ما يخالفون فيه الشريعة]
قال المؤلف رحمه الله: [فغلاتهم يجعلون ذلك مطلقاً عاماً، فيحتجون بالقدر في كل ما يخالفون فيه الشريعة].
يعني: يجعلون شهود الحقيقة الكونية مبرراً للاحتجاج المطلق بالقدر، فيرون أن ضلال هؤلاء وانحراف العصاة وكفر الكفار هم معذورون فيه؛ لأن هذا هو مقتضى إرادة الله عز وجل، وأنه يجب عليهم أن يوافقوا مقتضى هذه الإرادة، وقد سبق أن بينا أن الله عز وجل خلق في هذا الكون أموراً خيرة يحبها، وأموراً شريرة يبغضها ويكرهها، وإنما خلق الله عز وجل هذه الأمور السيئة والشريرة امتحاناً للعباد واختباراً لهم، فنحن في دار ابتلاء ولسنا في دار جزاء.
فهؤلاء جعلوا هذه الأمور السيئة مثل الذنوب والمعاصي ونحو ذلك من جنس المصائب، وأنه يجب على الإنسان أن يستسلم لها، وأن الإنسان إذا استسلم لها فإنه يكون معذوراً فيها، ولا شك أن هذا ضلال مبين.
قال: [وقول هؤلاء شر من قول اليهود والنصارى، وهو من جنس قول المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:١٤٨].
وقالوا: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:٢٠]].
إذاً: المشركون يحاولون الاحتجاج لعقيدتهم، ويعتذرون عن هذا الشرك، ويبررون هذا الشرك، وأن هذا الشرك الذي يقومون به هو عين الصواب؛ لأنه لو كان هذا الأمر يريده الله فكيف يكون موجوداً؟ وأنه ما دام أنه وجد فمعنى هذا أنه حق، وأن معيار الصواب والخطأ والحق والباطل وجود الشيء، وهذا لا شك أنه باطل، فليس معيار الشيء في وجوده، فقد يوجد في الكون أمورٌ فاسدة وأمور باطلة وانحرافات وضلالات وأمور خطيرة على حياة الإنسان، فليس كل موجود معناه: أنه حق وأنه طيب وأنه خير.
فالسم موجود، فهل يحتسيه الإنسان؟ وأنواع الحيوانات المفترسة موجودة، فهل يعرض الإنسان نفسه لها؟ هذه في الأمور الطبيعية.
وفي الأمور الشرعية الكفر موجود فهل هذا كله حق؟ وهذه الأمور المتناقضة: من يعبد الشيطان ومن يعبد الأصنام ومن يلحد وينكر وجود الله عز وجل، ومن يتدين بدين خرافي لا أصل له، هل كل هؤلاء على حق لأنها موجودة؟ إذاً: ليس معيار الصواب والخطأ: الوجود في حد ذاته، لكن هؤلاء جعلوا الوجود معيار الصواب والخطأ، فقالوا: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:٢٠].
إذاً: معنى كلامهم أنه لما عبدناهم دَلَّ على أن الله يحب هذا، وهذا لا شك أنه باطل، فإن الله عز وجل خلق أموراً كثيرة، هي من الأمور السيئة، سواءً في الأمور الطبيعية مثل الأمور الضارة بالنسبة للإنسان، وأيضاً في الأمور الشرعية، مثل الكفر والذنوب والمعاصي، وإنما خلقها للابتلاء، ولهذا أنزل الكتب وأرسل الرسل.
ولو كان الوجود هو معيار الصواب والخطأ فما هي الحكمة إذاً من إرسال الرسل؟ يتدين الإنسان بأي دين ويعتنق أي مذهب، فإذا وجد فهذا يدل على أنه صواب، هذا مقتضى قوله.
ولا شك أن هؤلاء عند التحقيق لا يثبتون على هذا القول، يعني: عند التحقيق والتمحيص لا يثبتون عليه؛ لأنك تجد الطوائف مختلفة، فكل طائفة تتهم الطائفة الأخرى بأن عقيدتها باطلة، وأن مذهبها باطل.
لماذا أنتم تعتقدون أن عقيدة هؤلاء باطلة مع أنها موجودة؟ لو شاء الله ما فعلوها.
إذاً: الفكرة نفسها هي عبارة عن هروب في المناظرة، عندما يكون الحق قد حصر الباطل، ولم يستطع الباطل الفرار، وكان الواجب أن يعرف أنه باطل، فيخرج من مثل هذه المخارج الضيقة الباطلة التي يعرف الإنسان بمجرد التفكير فيها أنها باطلة.
وابن تيمية رحمه الله في الرسالة التدمرية قسمها على قسمين: قسم تحدث فيه عن الصفات.
وقسم تحدث فيه عن القدر.
فعندما تحدث عن القدر قسم أهل الانحراف في القدر إلى ثلاثة أقسام: المجوسية، والإبليسية، والمشركية.
فهؤلاء الذين يحتجون بالقدر على أفعالهم وتصويب أعمالهم بأنها موجودة، هؤلاء هم الذين شابهوا المشركين في قولهم.