والفروق بين الإرادتين: هو أن الإرادة الكونية قد يحبها الله سبحانه وتعالى وقد لا يحبها، لأن مخلوقات الله عز وجل التي خلقها ليست نوعاً واحداً، فمنها مخلوقات يحبها الله عز وجل، مثل الصالحين، والرسل، والإيمان، والتقوى، وبر الوالدين، ونحو ذلك من الأعمال الطيبة الصالحة، وهناك أنواع أخرى خلقها الله عز وجل وأرادها في الكون وهو لا يحبها سبحانه وتعالى، مثل خلق إبليس، ومثل خلق الفساد والكفر والانحراف بكل صوره وألوانه.
فالإرادة الكونية قد يحبها الله سبحانه وتعالى ويرضاها، وقد لا يحبها ولا يرضاها.
أما الإرادة الشرعية فهو تعالى يحبها، ويرضاها؛ لأنها هي أوامره ونواهيه، فهو يحب من ائتمر بها، ويحب ذلك الذي يترك المنهيات، هذا الفرق الأول.
الفرق الثاني: أن الإرادة الكونية ليست مقصودة لذاتها، وإنما خلق الله عز وجل مخلوقات كثيرة منها ما هو مقصود لذاته مثل الإيمان، والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصالحين ونحو ذلك، ومنها أمور خلقها الله عز وجل ابتلاء للخلق، مثل إبليس، ومثل الكفار والمشركين ونحو ذلك، وهذه المرادات التي أرادها الله سبحانه وتعالى ليست شراً محضاً من كل الوجوه، وإنما هي مقصودة لغيرها، فإن إبليس خلقه الله عز وجل لتظهر عبودية العابدين، وصبر الصابرين، وابتعاد الناس عنه، ونحو ذلك من العبوديات التي تحصل من أهل الإيمان والصلاح، وهكذا الكفار عندما خلقهم الله عز وجل خلقهم من أجل أن يظهر جهاد المؤمنين، ويظهر صلاحهم وتقواهم وصبرهم على كف أذاهم عن الناس ونحو ذلك، فهي مقصودة لغيرها.
أما الإرادة الشرعية فإنها مقصودة لذاتها، فإذا أمر الله سبحانه وتعالى بالصلاة -مثلاً- فهو يقصد ويحب من العبد أن يأتي بالصلاة، وإذا أمر بالزكاة فهي مثلها، وكذلك الحج، وكذلك الصيام، وكذلك الجهاد في سبيل الله، وكذلك سائر المأمورات الشرعية.
الفرق الثالث: أن الإرادة الكونية التي أرادها الله عز وجل لا بد من حصولها ولا بد من وقوعها، لأنها هي معنى أن الله عز وجل يخلق الخلق، فإذا خلق الله شيئاً فلا يرده أحد، ولا بد من أن يقع ولا بد من أن يكون، كما قال تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[يس:٨٢]، فلا راد لقضائه سبحانه وتعالى، ولا دافع لمشيئته سبحانه وتعالى.
أما الإرادة الشرعية فإن العباد قد لا ينفذونها، مثل الأمر بالإسلام، فتجد أن الكفار لا ينفذونه، ومثل الأمر بعبادة الله عز وجل، فنجد أن المنافقين لا يعترفون به، وهكذا.
فهذه الفروق الثلاثة هي التي تجمع الفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، والذي يفهم هذا الفرق تنجلي عنه كثير من الإشكالات التي وقع فيها أهل البدع في قضايا القدر؛ فإن المعتزلة الذين نفوا قدر الله سبحانه وتعالى، وأنه كتب الأشياء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة غلّبوا الإرادة الشرعية، فلما غلّبوا الإرادة الشرعية كفروا بالإرادة الكونية، ولهذا رتبوا على هذا أن العبد هو الذي ينشئ فعل نفسه، وهو الذي يخلقه، وهو الذي يحدثه لنفسه، والله عز وجل لا يتصرف في أفعال العباد ولا في أعمالهم! فجاء الجبرية وعكسوا الأمر، فآمنوا بالإرادة الكونية، وأن الله خالق كل شيء سبحانه وتعالى، ومن مخلوقاته أفعال العباد، ولهذا عظّموا الإرادة الكونية على حساب الإرادة الشرعية، فقالوا بالجبر، وقالوا: إن الله عز وجل جبر العباد على أفعال معينة وعلى أقوال، وإن الله قسم الخلق إلى مسلمين وكفار، ولا يمكن للمسلم أن يصير كافراً، ولا للكافر أن يصير مسلماً، وأما أهل السنة فهم وسط بين هاتين الطائفتين، وهم أهل الحق، وهم أسعد الناس بالحق، حيث آمنوا بالإرادتين جميعاً، ولم يتصوروا وجود تعارض بين الإرادتين، فهم يقولون: إن الله عز وجل خالق الخلق، وهو سبحانه وتعالى مقدر كل شيء وقد قدر الأشياء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ولا يمكن لأحد أن يعمل عملاً لم يرده الله عز وجل إرادة كونية ولم يخلقه سبحانه وتعالى وفي نفس الوقت يقولون: إن الله أمر بأوامر، وهذه الأوامر التي أمر بها للعبد فيها إرادة، فيستطيع أن يعملها وأن يقوم بها، وحينئذ جمعوا بين الإرادتين جميعاً، وكانوا أهل الحق وأسعد الناس به، وسيأتي شيء من التعليق على موضوع القدر في أكثر من مكان بإذن الله تعالى.