[توجيه عطف بعض الأعمال على العبادة مع أنها داخلة فيها]
قال: [فإن قيل: فإذا كان جميع ما يحبه الله داخلاً في اسم العبادة، فلماذا عطف عليها غيرها، كقوله في فاتحة الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥] وقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:١٢٣] وقول نوح: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح:٣] وكذلك قول غيره من الرسل قيل؟!].
هناك قاعدة في العطف ينبغي إدراكها وهو: أن العطف لا يقتضي التغاير دائماً، وإنما أحياناً يكون العطف يقتضي عطف الخاص على العام، لإبرازه وبيان مكانته، فالعمل من الإيمان، ومع ذلك يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [النساء:٥٧] وأيضاً: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:٢٣٨] مع أن الصلاة الوسطى من الصلوات أيضاً، وتخصيص الصلاة الوسطى بالذكر لأهميتها ومكانتها.
قال: [قيل: هذا له نظائر، كما في قوله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:٤٥] والفحشاء من المنكر].
هذا من أنواع العطف العام على الخاص، وأحياناً يكون العكس.
قال: [وكذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:٩٠] وإيتاء ذي القربى هو من العدل والإحسان، كما أن الفحشاء والبغي من المنكر، وكذلك قوله: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} [الأعراف:١٧٠] وإقامة الصلاة من أعظم التمسك بالكتاب، وكذلك قوله عن أنبياءه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:٩٠] ودعاؤهم رغباً ورهباً من الخيرات، وأمثال ذلك في القرآن كثير.
وهذا الباب يكون تارةً معْ كون أحدهما بعض الآخر، فيعطف عليه تخصيصاً له بالذكر، لكونه مطلوباً بالمعنى العام والمعنى الخاص.
وتارة دلالة الاسم تتنوع بحال الانفراد والاقتران، فإذا أفرد عمَّ، وإذا قرن بغيره خص، كاسم الفقير والمسكين، لما أفرد أحدهما في مثل قوله: {لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:٢٧٣] وقوله: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:٨٩] دخل فيه الآخر، ولما قرن بينهما في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:٦٠] صارا نوعين.
] إذاً العطف أحياناً يقتضي التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه، وأحياناً لا يقتضي التغاير، إنما له دلالة أخرى، وقد ذكر الشيخ هنا نوعين من الدلالة: * النوع الأول: أن يكون الشيء معطوفاً على جزئه، أو معطوفاً الجزء على الذي هو جزء منه، سواءً من عطف الخاص على العام، أو من عطف العام على الخاص، لبيان أهميته ومكانته ومنزلته، والأمثلة السابقة تدل على هذا المعنى.
* والنوع الثاني: من أغراض العطف أن يكون الاسم أحياناً يقتضي معنى عاماً، وأحياناً يقتضي معنى خاصاً، فإذا أطلق اقتضى معنى عاماً، وإذا قيد اقتضى معنى خاصاً، وهذا كثير في الفقير والمسكين، وفي الإيمان والإسلام، وفي البر والعمل الصالح وفي غيرها.
قال: [وقد قيل: إن الخاص المعطوف على العام لا يدخل في العام حال الاقتران، بل يكون من هذا الباب.
] هذا معنى آخر، وهو أنه أحياناً يعطف الخاص على العام، ولا يكون أثناء هذا العطف داخلاً في المعنى العام، وإنما يكون مخصوصاً بمعنى يخصه حال العطف، فمثلاً: ((الذين آمنوا وعملوا الصالحات)) هنا يمكن أن يستدل بهذه الآية المرجئة الذين قالوا بأن الإيمان يقتضي التصديق، والعمل الصالح خارج عن الإيمان، فردّ عليهم أهل السنة بأحد وجهين: * الوجه الأول: أن يقال: إن العمل الصالح هنا جزء من الإيمان.
والعطف هنا لبيان أهمية العمل الصالح كما سبق في قوله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:٤٥] مع أن الفحشاء من المنكر.
* وقيل بأن الإيمان أحياناً يطلق بمعنى عام يشمل العمل، وأحياناً يطلق بمعنى خاص يقتضي إيمان القلب فقط، فيكون في هذه الآية: ((الذين آمنوا وعملوا الصالحات)) الإيمان يقتضي إيمان القلب فقط.
وهذا التوجيه أيضاً صحيح لا بأس به.
قال: [والتحقيق أن هذا ليس لازم قال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة:٩٨] وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب:٧].
وذكر الخاص مع العام يكون لأسباب متنوعة: تارة لكونه له خاصية ليست لسائر أفراد العام، كما في نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وتارة لك