وهذه العبودية الجبرية تقر بها جميع الأمم من المشركين واليهود والنصارى وعامة الوثنيين من جهتين: من جهة الاستسلام الحقيقي العملي، ومن جهة الاعتراف بأن هناك رباً يجب أن يستسلم له استسلاماً مطلقاً، ولا توجد أمة من الأمم في الدنيا تقول: إن هناك إلهين خالقين مدبرين لهذا العالم على السواء؛ لأن هذا يرفضه العقل؛ لأنه إذا كان هناك إلهان خالقان لهذا العالم فأراد أحدهما فعل شيء، وأراد الآخر أن لا يكون هذا الشيء -كما لو أراد أحدهما تحريك جسم، وأراد الآخر تسكينه- فإما أن تنفذ إرادة الاثنين، وهذا لا يتصور أبداً؛ لأنه إذا نفذت إرادة الاثنين فمعنى هذا أن الجسم سيكون متحركاً وساكناً في آن واحد، وهذا ممتنع، وإما ألا تنفذ إرادة الاثنين، وهذا أيضاً ممتنع؛ لأن نفي النقيضين ممتنع؛ لأنه لا يتصور في الجسم إلا أن يكون ساكناً أو متحركاً؛ لأنه إذا خلا من الحركة والسكون كان عدماً، وإما أن تنفذ إرادة أحدهما، فإذا نفذت إرادة أحدهما فهو الإله، والآخر مألوه، ولهذا لا يتصور أبداً أن يكون هناك إلهان خالقان للعالم مدبران له، ولهذا أقرت جميع الأمم في الأرض بأن الله عز وجل وحده هو الخالق الرازق المحيي المميت سبحانه وتعالى، ووقع الشرك عندهم في عبادة غير الله سبحانه وتعالى بصرف الإرادات -كالمحبة والخوف والرجاء ونحو ذلك- لغير الله، أو بصرف أعمال الظاهر -مثل أعمال الجوارح وقول اللسان- بغير الله سبحانه وتعالى، فهذه العبودية الاضطرارية لا تخرج الإنسان إذا آمن بها واعترف بها عن دائرة الكفر، ولا تدخله في دائرة الإسلام، فلو أن مجوسياً جاء وقال: أنا عابد، فقلنا له: ما هو الدليل على أنك عابد؟ فقال: أنا أقر بأني خاضع لله عز وجل، فلا يمكن أن أحدث شيئاً في الكون لم يرده الله عز وجل، ولا يمكن أبداً أن يأتيني رزق -مثلاً- أو أي شيء إلا من الله، فأنا نقول: هذا وحده لا يكفي في الدخول في الإسلام، بل لابد من أن يضاف إليه العبادة، وهو ما سيأتي معنا في الكلام عن العبودية الاختيارية، وهي العبودية التي يختار الإنسان فعلها، أو يختار تركها.