ثم انتقل الشيخ إلى قضية أخرى، وهي قضية نقاش مع الصوفية خطيرة جداً، فإن الصوفية يدعون التعبد ويدعون أنهم يجتهدون في العبادة اجتهاداً كبيراً، وهم إنما تميزوا وقبلهم الناس لظن كثير من الناس أنهم أهل عبادة وأهل اجتهاد في العبادة، لكن -يا ترى- هل الصوفية عندما يشتغلون في خلواتهم وجلساتهم وحضراتهم -كما يسمونها- وشهودهم هل يشهدون العبودية الاختيارية التي أوجبها الله عز وجل -وهي توحيد الإلهية- أم أنهم يجتهدون في إثبات الخالقية والرازقية والمالكية فقط لله عز وجل؟! بمعنى: أنهم يشهدون توحيد الربوبية، أو يتعلقون تعلقاً تاماً بالعبودية الاضطرارية.
الواقع أن الذي ينظر إلى منهج الصوفية يجد أنهم يتعلقون بالعبودية الاضطرارية، فأحدهم إذا جلس في خلوته وبدأ يجتهد في العمل حتى يوصله ذلك إلى الكشف يعترض عليه بعدة أمور: الأمر الأول: أن الذكر والورد الذي يقوم به في خلوته ذكر مبتدع، فهو وورد مبتدع إما أن يردد -مثلاً- الضمير (هو) فيقول: هو، هو، وهكذا، وإما أن يردد اسماً من أسماء، فيقول: الله، الله، الله، الله، الله، أو: اللطيف، اللطيف، اللطيف، اللطيف، وهكذا، وهذا لا شك في أنه ذكر مبتدع لم يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيأتي معنا الكلام عليه مفصلاً وذكر أدلته، والرد عليها بإذن الله تعالى.
فأول ما يبدأ الصوفي في خلوته بذكر بدعي، فإذا كرر الاسم (الله) لا يشهد ولا يفكر ولا يرى عبودية الله عز وجل ووجوب إفراده بالعبادة، بل يفكر في كونه هو الخالق الخلق المطلق وهو الرازق الرزق المطلق، وهو المحيي الحياة المطلقة والمالك ملكاً مطلقاً، وهكذا، فيبدأ يشغل نفسه بهذا الأمر، وهذا الأمر لا شك في أنه عظيم إذا ترتب عليه فائدة عملية، لكن مجرد التفكير المجرد فيه ليس فيه زيادة على عمل المشركين الذين قال تعالى عنهم:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}[لقمان:٢٥] فالتفكير المجرد في أن الله هو خالق السموات والأرض ليس فيه زيادة، بل الزيادة هي الثمرة المترتبة، فإذا كان الله تعالى خالق للسموات والأرض فلابد من أن أعبده وأصلي له وأسجد، وأخاف منه، وأرجوه، وأتوكل عليه، وهكذا.
فالصوفية يشتغلون بهذا حتى يصلون إلى الكشف، والكشف هو حالة تأتي لهم من ترديد بعض الكلمات، ولا سيما إذا خالطها بعض السماع، مثل الطبل والرقص والصياح، وقد يكون مع ذلك أن يرتفع الواحد منهم على الأرض ويسقط عليها مرة أخرى، أو يقف على رأسه مدة طويلة، أنه مع هذه الأمور جميعاً تأتيه بعض الأحيان تصورات، وتأتيه أفكار، وتأتيه أوهام، فيظن أن هذه الأفكار وأن هذه الأوهام وأن هذه التصورات حقيقة لا تقبل الشك، مع أنها في بعض الأحيان تكون فرصة مناسبة للشيطان، فيدخل فيه ويعطيه أفكاراً ويعطيه آراء، ويعطيه أشياء معنوية في نفسه.
والمهم أنهم يرون أن هذا العمل الذي يقومون به غاية العبودية، ولاشك في أن هذا العمل ليس هو غاية العبودية، وإنما العبودية -كما سيأتي معنا- هي العبودية الاختيارية التي تكون متعلقة بقلب الإنسان وعمله، مثل الخوف والرجاء.
أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح.