ومن جهوده أنه أفتى في المسائل التي استصعب كثير من الناس الإفتاء فيها، وحرك السلاطين في جهاد المغول التتار، والتتار كان لهم تأثير في حياة المسلمين، وهم عبارة عن قبائل كانت موجودة في جنوب شرق منغوليا، وكانت قبائل متعددة، ثم ولي أمرهم جنكيز خان، واستطاع أن يجتاح بعض البلاد، حتى استطاع أن يحتل ما يسمى اليوم بأفغانستان وإيران، ودخل بغداد عام ٦٥٦هـ، وكان سبب دخول التتار لبغداد، هو الخيانة من الرافضة الشيعة، فإن المستعصم -وهو آخر خلفاء الدولة العباسية في الفترة التي قبل التتار- كان رجلاً مقبلاً على الشهوات، ومقبلاً على المغنيات وعلى الراقصات، ومقبلاً على جمع الأموال وعلى اللعب، وكان عنده وزراء بعضهم من الرافضة، وكان لهم تأثير كبير جداً في صفوف الدولة العباسية، فقد كان عند الخليفة وزير اسمه ابن العلقمي، كان يحسن للمستعصم تلك الشهوات، وكان المستعصم يعرف أنه رافضي، ولأنه غافل مقبل على الشهوات ما استطاع أن يدرك أثر هؤلاء الأعداء، وهم الشيعة الرافضة، فقام ابن العلقمي بزيارة هولاكو عندما وقف على حدود بغداد، فزاره وأخذ الأمان لنفسه، ثم قال له: سأترك لك الميدان لكي تدخل بغداد بدون أي مقاومة ثم رجع إلى بغداد، وجاء إلى المستعصم بعد أن صرف غالب الجنود الموجودين في بغداد فقال: إن هذا الرجل لديه جيوش لا قبل لك بها، فما رأيك أن تذهب إليه وأن تطلب منه أن يبقيك كما أبقى ملك الروم وتكون له الولاية ولا يضرك بشيء؟ فانخدع المستعصم، وزُيِّن له ذلك، فقام ومعه أربعون من العلماء ومن أولاده ومن نسائه ومن أعيان البلد، ومن الوزراء الذين كانوا معه، فلما وفدوا على هولاكو قتلهم عن بكرة أبيهم، وما ترك منهم نفساً، ولما أراد قتل المستعصم خاف؛ لأنه يعرف أن الخليفة عند المسلمين شيء كبير، وأنه لا يستطيع أن يقتل الخليفة مباشرة، فربما هاج عليه العامة فلا يستطيع أن يقاومهم، فزين له ابن العلقمي وسيلة لقتله، وهي أن يلفه في لحاف وأن يضربه حتى يموت بدون أن يهريق دمه، ثم يقال: إنه مات، ثم قتل بهذه الطريقة بين يدي هولاكو، ثم دخل التتار بغداد، وعبثوا فيها أربعين يوماً يحرقون ويسرقون ويدمرون ويقتلون، حتى إن ابن كثير رحمه الله قال في البداية والنهاية: قتل فيها أكثر من ألف ألف إنسان يعني: قتل أكثر من مليون من المسلمين في تلك الفترة الحرجة، وابن الأثير صاحب (الكامل) عندما تكلم عن مجيء التتار ومحاصرتهم لبغداد قال: إنني ترددت كثيراً في كتابة ما فعله التتار بالمسلمين، فإنه لا يمكن للإنسان أن يرضى بأن يكتب نعي الإسلام، ولا أستطيع أن أكتب الدمار الذي حل بالمسلمين، فيا ليت أمي لم تلدني، ويقول: يا ليتني كنت نسياً منسياً ومت قبل هذه الحادثة، وذلك لما رأى.
وعلى كل حال فإن تلك الفترة -مع أنها فترة ضعف وفترة جمود في حياة المسلمين- هي أقل بكثير من حياة المسلمين في هذا العصر.
ثم إن هذه القبائل الوثنية -أعني التتار- لما اجتاحت بلاد المسلمين استطاع الملك المظفر قطز أن يردهم عن بلاد الشام، ثم جاء محمود غازان -وهو حاكم من حكامهم- فأسلم، ولو استطاع غازان أن يغير عقائد المسلمين وأن يغير أخلاقهم وآدابهم وأفكارهم وتوجهاتهم ويجعلهم على منهج التتار لما أسلم، ولا يمكن أن يسلم، لكن أهل الإسلام بقوا على عقائدهم مع وجود هذا الاستعمار العسكري المباشر من التتار، ومع هذا استطاعوا أن يبدلوا عقيدة أعظم حاكم من حكام البوذيين في ذلك الزمان، وهو غازان، فأسلم، وهذا يقودنا إلى الكلام عن بعض المسائل الصعبة التي استطاع أن يفتي فيها شيخ الإسلام ابن تيمية، وذلك أن غازان أسلم قبل رمضان، وصام رمضان، وبدأ يصلي، وأمر الناس بالإسلام، وبنى المساجد، وبدأ يدعو الوثنيين إلى الإسلام والتخلي عن عقائدهم، وأعلن أن دين الدولة هو الإسلام، لكنه مع هذا بقي يحكم بدستور وضعه جنكيز خان القائد الأول للمغول الوثنيين، وقد جمع هذا الدستور الذي يحكم به من عقائد الأمم الوثنية، ومن عقائد اليهود، ومن عقائد النصارى، وجعله في كتاب سمي (الياسق)، فلما أراد المسلمون أن يحاربوهم تردد كثير من العلماء في بلاد الشام وفي مصر في محاربتهم، وقالوا: كيف نحارب المسلمين؟! فهم يعلنون أنهم مسلمون، فكيف نحاربهم؟! فأفتى شيخ الإسلام ابن تيمية بأنهم ليسوا من المسلمين، وأن دولتهم دولة حرب، والسبب في هذا هو أنهم لم يتنازلوا عن عقائد الكفر، والواجب على الإنسان إذا أسلم أن يترك عقائد الكفر وأن يبدأ حياة جديدة، فيسلم ويكون خاضعاً لدين الله عز وجل في كل وجه من الوجوه، أما أن يكون هذا (الياسق) هو المسيطر عليهم، وهو الحاكم بين