قال المؤلف رحمه الله تعالى:[وهؤلاء من أعظم الناس عذاباً، وأقلهم ثواباً].
العبودية لغير الله عز وجل أنواع من حيث ماهيتها ونوعها، وأنواع من حيث حكمها الشرعي، فهناك عبودية للمال، وهناك عبودية للصور والأشكال، وهناك عبودية للشرف، وهناك عبودية لأمر غيبي يتخيل الإنسان أنه صحيح، فإذا كان لغير الله فهو خرافة.
فمن العبودية: العبودية للمال والشرف، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور:(ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم أضر أو بأضر عليه من حرص الإنسان على المال والشرف لدينه)، وهذا الحديث صحيح، وقد شرحه الحافظ ابن رجب الحنبلي في رسالة كاملة، وهو حديث عظيم جداً يحمل مثالاً عظيماً: وهو أن حرص الإنسان على الشرف والمال يفسد الدين كما يفسده الذئبان الجائعان اللذان أرسلا في غنم ليس لها راعٍ.
ومن خصائص الذئب: أنه لا يكتفي بما يريد، فإذا دخل في مكان مليء بالأغنام فإنه لا يكتفي بأن يقتل واحدة بل يقتلها كلها ثم بعد ذلك يأكل واحدة فقط ويمشي، ولهذا فإن أهل البادية يعرفون عن الذئب أنه مفسد، فهو يأكل الشيء الذي عنده ويقتل الباقي.
فالمقصود: أن حرص الإنسان على الشرف والمال يفسد دينه بأكمله كما يفسد الذئب هذه الأغنام، وإذا كان الإنسان حريصاً على المال والشرف فإن الحرص عليهما قد يصد عن سبيل الله وقد يدعو إلى الكفر.
وأنتم تعلمون قصة هرقل عظيم الروم لما أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم عمراً بن أمية الضمري، وجيء له بالكتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك جمع أبا سفيان ومعه بعض العرب وسألهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث طويل عن ابن عباس في صحيح البخاري، فقد سألهم عن حاله، وعن نسبه، وعن المعارك التي بينه وبينهم، وعن حقيقة دعوته، وماذا يطالب به، وهل كان في آبائه من ملك، وبعدما انتهى من الأسئلة قال: والله إن صدقتم فيما قلتم إنه رسول الله، فإنه سيملك موضع قدمي هاتين، -وكان قصر هرقل في الأردن- ولو أنني خلصت إليه -يعني: وصلت إليه- لغسلت عن قدميه وشربت مرقتها، وهذا يدل على أنه عرف الدين، وقد كان عنده شيء من علم الكتاب، لكن منعه من الإسلام الشرف وحب الملك، فلو أن هرقل أسلم فإنه سيترك الدولة الرومانية التي يملكها بأكملها، وسيأتي إلى المدينة ويعيش صعلوكاً ليس معه درهم واحد، فهذه الموازنة التي حصلت في عقل هرقل، فقد كان يملك أوروبا بأكملها، وبلاد الشام عبارة عن مستعمرات، وكما أن أمريكا استعمرت أفغانستان والعراق فإن هرقل استعمر بلاد الشام.
والاستعمار اسم جميل لكنه في الحقيقة تدمير، فالأعداء يسمونه أسماء جميلة حتى تروج عند الناس.
فالشاهد: أنه جمع بطارقة الروم في دسكرة واحدة وأطل عليهم من شرفة وأغلق الأبواب وأخبرهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: والله إنه رسول الله، ثم قال لهم: هل لكم في الفلاح والنجاح؟ فحاصوا كما تحوص الحمر، واتجهوا إلى الأبواب، فلما يئس عدو الله من الإسلام قال: ردوهم علي فلما اجتمعوا بين يديه قال: إنما كنت أختبر التزامكم بدينكم، فبقي على شركه.
فالشرف أحياناً قد يدعو الإنسان إلى الشرك، ويمنعه من الإسلام، وهكذا الحال في المال، فقد يصد عن سبيل الله في كثير من الأحيان.