للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المصائب والمعايب وحكم الاحتجاج بالقدر فيهما]

وبعد أن شرح الشيخ كلام الشيخ عبد القادر الجيلاني أشار إلى مجموعة من الآيات التي تبين بعض الأحكام الشرعية، وهي أن للإنسان أن يحتج بالقدر على المصائب، لكنه لا يحتج به على المعايب، يقول في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:٢٠]: [ولو هدوا لعلموا أن القدر أمرنا أن نرضى به ونصبر على موجبه في المصائب التي تصيبنا كالفقر والمرض والخوف].

ثم بدأ يذكر بعض الآيات والأحاديث التي تدل على أن الإنسان إذا أصيب بمرض أو أصيب بفقر أو أصيب بمصيبة كان ذلك من قدر الله عز وجل، وأنه لا بد من أن يصبر عليه ويرضى به.

يقول: [قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:١١] يعني: من يؤمن بقدر الله عز وجل في هذا الأمر يهد قلبه.

قال بعض السلف: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.

وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:٢٢]] فقوله تعالى: ((إِلَّا فِي كِتَابٍ)) يعني: مكتوبة.

وهذا يدل على المرتبة الثانية من مراتب الإيمان بالقدر {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:٢٢ - ٢٣].

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (احتج آدم وموسى، فقال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء، فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟)] فموسى يلوم آدم عليهما السلام فعلى أي شيء يلومه؟ على أنه كان سبباً في إخراجه من الجنة، فهل لامه على أكل الشجرة؟ إنه لم يلمه على أكل الشجرة، وإنما لامه على المصيبة المترتبة على المعصية.

قال صلى الله عليه وسلم: (فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، فهل وجدت ذلك مكتوباً عليّ قبل أن أخلق؟ قال: نعم).

يعني: ما دام أنه مكتوب عليّ فلماذا تلومني؟! ولهذا جاء في بعض الألفاظ: (فلماذا تلومني على شيء قد كتبه الله عليَّ قبل أن أخلق بخمسين ألف سنة).

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فحج آدم وموسى) يعني: أن آدم غلب موسى في الحجة؛ لأنه احتج بما هو حجة صحيحة، وهو أن هذا أمر كتبه الله عليه، فكيف تلومني عليه وقد كتبه الله عليّ؟! فلا يصح أن يلام الإنسان على شيء كتب عليه.

فآدم عليه السلام لم يحتج بالقدر على الذنب، وبعض الناس يقول: مكتوب عليّ أن أعصي الله عز وجل.

وهذا احتجاج غير صحيح، فآدم عليه السلام لم يقل: يا موسى! إن المعصية التي فعلتها مكتوبة عليّ.

وإنما احتج بالمصيبة، أما أن المذنب يحتج بالقدر فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل، ولو كان هذا عذراً لكان عذراً لأبليس، فيقول يا رب! أنت كتبت عليَّ أن أعصيك، وإلا فإني لا أريد أن أعصيك.

وهذا لا يصح أن يكون حجة لإبليس، ولا يصح أن يكون حجة لأي إنسان.

فالاحتجاج بالقدر على الذنوب لا شك في أنه باطل، وإذا جئت إلى الإنسان الذي يحتج بالقدر فآذيته بأي نوع من الإيذاء فإنه لا يمكن أن يصبر على هذا الإيذاء، وإنما يكافئ الإيذاء بمثله، فقد جيء برجل إلى عمر بن الخطاب -كما يذكر أهل السير والأخبار- وقد سرق، فقال له: كيف تقطع يدي على شيء كتبه الله عليّ؟! يعني السرقة، فقال: وإن الله كتب على يدك أن تقطع، كما أنه كتب أن تسرق.

يعني: أنت كنت مخيراً بين السرقة وتركها، فاخترت السرقة، وقد علمنا باختيارك للسرقة أن الله كتبها عليك، فنحن نقطع يدك بما أمر الله عز وجل به، وكل ذلك من قدر الله عز وجل.

يقول: [ولو كان هذا عذراً لكان عذراً لإبليس وقوم نوح وقوم عاد وكل كافر، ولا موسى لام آدم أيضاً لأجل الذنب] يعني: ما قال له: لماذا أكلت من الشجرة؟! وإنما لامه من أجل المصيبة، فإن آدم قد تاب إلى الله فاجتباه وهداه، ولكن لامه لأجل المصيبة التي لحقتهم بالخطيئة، وهي الإخراج من الجنة، إذ كان بالإمكان أن نكون في الجنة، فشعر موسى عليه السلام بأن الخروج إلى هذه الدنيا والعيش فيها مصيبة فلامه، فاحتج عليه آدم بالقدر، وهو أن هذا شيء مكتوب عليه أصلاً، فتنزل أنت إلى هذه الأرض وأنزل أنا إلى هذه الأرض، ولهذا قال له: فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فأجابه آدم: إن هذا كان مكتوباً عليَّ قبل أن أخلق.

فكان العمل والمصيبة المترتبة عليه مقدراً، وما قدر من المصائب يجب الاستسلام له، فإنه من تمام الرضا بالله رباً.

وأما الذنوب فليس للعبد أن يذنب، وإذا أذنب فعليه أن يستغفر الله ويتوب من المعايب ويصبر على المصائب، والمعايب: هي الذنوب، والمصائب: ما يحصل للإنسان من البلاء، قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ

<<  <  ج: ص:  >  >>