[ضلال القدرية والجبرية في مسألة خلق أفعال العباد]
وهذه المسألة ضلت فيها الطائفتان المنحرفتان في القدر: القدرية، والجبرية.
فالقدرية قالوا: إنه إذا كان الله عز وجل هو الذي خلق أفعال العباد فمعنى هذا أننا مجبورون على أفعالنا! وبناءً على هذا قالوا: نحن نعرف أننا غير مجبورين، فبناءً على هذا لم يخلق الله تعالى أفعالنا! فإن قيل لهم: من خلقها إذاً؟! قالوا: نحن نخلق أفعالنا بأنفسنا.
فأثبتوا خالقاً مع الله عز وجل، وليس بخالق واحد، بل بعدد الخلق المكلفين من الجن والإنس.
أما الجبرية فإنهم قالوا: إنه ما دام أن النصوص الشرعية دلت على أن الله خلق أفعال العباد؛ فلا شك في أنهم مجبورون على أفعالهم؛ لأن الله خلق أفعالهم! وهذا كلام باطل أيضاً؛ فإننا نشعر في الواقع أنا لسنا مجبورين، فأنت لو شئت لصليت، ولو شئت لتركت الصلاة، وهذا مما يشعر به الإنسان، فالجبرية خالفت واقع الإنسان وحقيقة الإنسان، والمعتزلة أثبت خالقاً مع الله سبحانه وتعالى، فكفرت بربوبيته، والعياذ بالله.
ولهذا ينبغي أن يفهم الإنسان القول الحق، وهو قول أهل السنة والجماعة، وهو أن الله خلق أفعال العباد، وفي نفس الوقت الذي خلق فيه أفعال العباد لم يجبرهم على فعل معين، وإنما خلق لهم إرادات، فهذه الإرادات يختارون بها الأعمال، ولهذا نجد أن الناس بعضهم صالح باختيار منه، وبعضهم ملحد باختيار منه، ونجد في نفس الوقت أشخاصاً كانوا صالحين وصاروا ملحدين، ونجد أشخاصاً كانوا منحرفين ثم صاروا صالحين، وهذا يدل على أن التنقل عن اختيار، فأنت عندما تصلي لا تجد أحداً يأخذك جبراً وقصراً وأنت لا تريد أن تصلي، كما أن الذي يشرب الخمر لا يجد أحداً يأخذه بيده غصباً وجبراً ثم يدخله من أجل أن يشرب الخمر، بل كل أفعالنا عن اختيار، لكن هل معنى أن أفعالنا عن اختيار أننا نحن نخلق هذه الأفعال؟!
الجواب
لا نخلقها، فنحن في الأصل مخلوقون لله عز وجل.
فنحن نكذّب القدرية المعتزلة الذين قالوا بأن العبد يخلق فعل نفسه، فنقول: الذي خلقنا وخلق أفعالنا هو الله سبحانه وتعالى، ونكذّب الجبرية الذين قالوا: إن الله عز وجل جبر الخلق على أفعال معينة، ونقول: الواقع يدل على أن العبد يختار، كما أن الأوامر الشرعية تدل على هذا؛ لأنه لو كان العبد مجبوراً فما فائدة القرآن والسنة؟! ولهذا يقول العلماء: أن القدرية كذّبت بالقدر، والجبرية كذّبت بالشرع.
فالقدرية كذب بعضهم بعلم الله، وهؤلاء انقرضوا، وبعضهم كذّب بالكتابة وجعل العبد خالقاً لفعل نفسه، وهؤلاء هم القدرية المعتزلة، وما زالت القدرية موجودة في عقيدة الرافضة، وفي عقيدة الإباضية.
وتجد بعض الكُتّاب اليوم لهم مصنفات يتكلمون فيها عن الإنسان الحر أو حرية الإرادة الإنسانية، ويقصدون بحرية الإرادة الإنسانية أن الإنسان هو الذي ينشئ فعله من غير أن يكون مكتوباً عليه، والمشكلة عند هؤلاء هي أنهم لم يعلموا أن الله عز وجل علمه لا يحده حد، فلا يمكن أن يحد علم الله سبحانه وتعالى حد.
وبعض الناس قد يقول: إذا كان الله عز وجل كتب علينا هذه الأشياء؛ فنحن مساكين مجبورون! فنقول: لست مجبوراً.
فإن قال: كيف كتب الله علينا هذه الأشياء؟! قلنا: الله عز وجل علمه ليس كعلمك أنت، فعلم الله عز وجل واسع، فإنه قبل أن يخلقك، بل قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة علم سبحانه وتعالى أنه سيخلق إنساناً اسمه فلان، وسيلتقي مع فلان وفلان وفلان، وسيجتمعون في مسجد اسمه كذا، وسيدرسون كذا، وسيكون كذا، لقد علم هذا قبل أن يخلقنا بآلاف السنين، وهو عالم؛ لأن علمه ليس محدوداً كعلمي وعلمك، بل علمه سبحانه وتعالى واسع، فهو يعلم الماضي ويعلم المستقبل، ونحن لا نعلم المستقبل، ولا ندري ماذا سيحصل غداً، لكن الله يعلم ماذا سيحصل غداً، فعلمه الشامل سبحانه وتعالى كتبه في اللوح المحفوظ، فليس هناك جبر للعبد حتى نقول: إن العبد لا يريد أن يشرب الخمر، لكن الله كتب عليه شرب الخمر! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، فكأن الله جبره على ذلك، فهذا خطأ في فهم الإنسان وتصوره لعلم الله عز وجل بأنه مثل علم الإنسان، فأنت لا تعلم ما سيحصل غداً، لكن يمكنك أن تأخذ شخصاً وتقول له: غداً تعمل كذا وتعمل كذا! وبهذه الطريقة تكون قد أجبرته، لكن الله عز وجل ما أجبرنا مع أنه علم ما سنختار، ومثال ذلك في شيء أجده أما يمكنني أخذه ويمكنني تركه، فهل أنا مجبور على فعل معين فيه؟! إن عندي إرادة في نفسي، فلو شئت لأخذته الآن ولو شئت لتركته، ولا أحد من البشر ما يمكن أن أفعله بعد ذلك من الأخذ والترك، لكن الله سبحانه وتعالى يعلم، فكتب سبحانه وتعالى أنني سآخذه، أو كتب أنني لن آخذه بناءً على علمه سبحانه وتعالى، وعلمه سبحانه وتعالى شامل، فينبغي أن تفهم هذه الحقيقة الشرعية.