[الشكوى إلى الله لا تنافي الصبر الذي هو من تمام العبودية لله]
قال المؤلف رحمه الله: [وأوصى خواص أصحابه ألا يسألوا الناس شيئاً، وفي المسند أن أبا بكر كان يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد: ناولني إياه، ويقول: إن خليلي أمرني ألا أسأل الناس شيئاً.
وفي صحيح مسلم وغيره عن عوف بن مالك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بايعه في طائفة، وأسر إليهم كلمة خفية ألا يسألوا الناس شيئاً)، فكان بعض أولئك النفر يسقط السوط من يد أحدهم ولا يقول لأحد: ناولني إياه.
وقد دلت النصوص على الأمر بمسألة الخالق، والنهي عن مسألة المخلوق في غير موضع، كقوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:٧ - ٨]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)، ومنه قول الخليل: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت:١٧]، ولم يقل: فابتغوا الرزق عند الله؛ لأن تقديم الظرف يشعر بالاختصاص والحصر، كأنه قال: لا تبتغوا الرزق إلا عند الله، وقد قال تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:٣٢].
والإنسان لا بد له من حصول ما يحتاج إليه من الرزق ونحوه، ودفع ما يضره، وكلا الأمرين شرع له أن يكون دعاؤه لله، فلا يسأل رزقه إلا من الله، ولا يشتكي إلا إليه، كما قال يعقوب عليه السلام: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:٨٦].
والله تعالى ذكر في القرآن: الهجر الجميل، والصفح الجميل، والصبر الجميل، وقد قيل: إن الهجر الجميل هو: هجر بلا أذى، والصفح الجميل: صفح بلا معاتبة، والصبر الجميل: صبر بغير شكوى إلى المخلوق، ولهذا قرئ على أحمد بن حنبل في مرضه: إن طاوساً كان يكره أنين المريض ويقول: إنه شكوى، فما أن أحمد حتى مات.
وأما الشكوى إلى الخالق فلا تنافي الصبر الجميل، فإن يعقوب قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف:١٨]، وقال: {إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:٨٦]، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ في الفجر بسورة يونس، ويوسف، والنحل، فمر بهذه الآية في قراءته، فبكى حتى سمع نشيجه من آخر الصفوف].
الحقيقة أن هذه الأمور كما أنها متعلقة بالعبادة والتعلق بالله، والتوكل عليه والرضا بقضائه، إلا أن لها آثاراً نفسية كبيرة جداً على الإنسان، فقد واجهنا أشخاصاً كثيرين في الحياة منهم من ربما تتغير أمزجته، وتتغير نفسيته بسبب حدث من الأحداث، وهناك أمور طبيعية قد تحصل للإنسان كالمرض النفسي، ولا تعني دائماً أن هذا الإنسان سيئ، لكنها تعني: أن عبادته لله ناقصة.
والأمراض النفسية أحياناً تكون مثل الأمراض الجسدية، فقد يبتلى الصالحون بالأمراض النفسية، كما يبتلون بالأمراض الطبيعية، مع أنه من الصالحين.
لكن يكون المرض النفسي فيه ملاحظة على الشخص عندما يكون الذي تسبب فيه، بأن يكون متعلقاً بالدنيا تعلقاً شديد جداً، وحريصاً عليها حرصاً غير طبيعي، ومحباً لها محبة شديدة للغاية، هذا مع نقصه في عبوديته لله عز وجل، فهو أيضاً يتعرض لمخاطر نفسية كبيرة، عندما يفقد شيئاً منها، فقد يصاب بهوس، وقد يصاب بأمراض تشغله، وقد يصاب بأمور كبيرة.