ومثلها: الجمع والفرق، فإن الجمع والفرق من المصطلحات التي حصلت عند بعض المتأخرين، وأصبحت من مصطلحات صوفية، وأصبح يرددها البعض بمعنى صحيح، والبعض بمعنى فاسد، فقد يقصد البعض بالجمع: اجتماع القلب على الله سبحانه وتعالى، وعلى ذكره وشكره وعبادته، والفرق: كثرة المشاهدات التي يراها في الواقع، وليس بينهما تعارض ولا تناقض، وقد يأتي شخص آخر فيفسر الجمع بأنه: حقيقة التعبد، وهو: اعتقاد أن المخلوقات هي الله سبحانه وتعالى، وأن الفرق هو: عبارة عن أجزاء من ذاته، ولهذا عندما قيل للتلمساني وهو من فلاسفة الصوفية المتأخرين: كيف تفسر الكثرة الموجودة في المخلوقات، وأنت تقول: أنها هي عين ذات الله عز وجل؟ قال: ألا ترون موج البحر ما أكثره، مع أنه لا يمكن أن يسمى شيئاً غير البحر؟ ففسرها بهذا التفسير، وهذا هو مقصود بعض المتأخرين، فقد يكون المعنى الذي يراد بالجمع والفرق والوحدة والكثرة معنى صحيح، وقد يكون معنى باطل، فينبغي للإنسان التنبه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى:[فإذا انتقل إلى الجمع اجتمع قلبه على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، فالتفت قلبه إلى الله بعد التفاته إلى المخلوقين، فصارت محبته لربه، وخوفه من ربه، ورجاؤه لربه، واستعانته بربه، وهو في هذا الحال قد لا يسع قلبه النظر إلى المخلوق ليفرق بين الخالق والمخلوق، فقد يكون مجتمعاً على الحق، معرضاً عن الخلق نظراً وقصداً، وهو نظير النوع الثاني من الفناء.
ولكن بعد ذلك الفرق الثاني وهو: أن يشهد أن المخلوقات قائمة بالله، مدبرة بأمره، ويشهد كثرتها معدومة بوحدانية الله سبحانه وتعالى، وأنه سبحانه رب المصنوعات وإلهها وخالقها ومالكها، فيكون مع اجتماع قلبه على الله -إخلاصاً له ومحبة وخوفاً ورجاء واستعانة وتوكلاً على الله، وموالاة فيه، ومعاداة فيه، وأمثال ذلك- ناظراً إلى الفرق بين الخالق والمخلوق، مميزاً بين هذا وهذا، يشهد تفرق المخلوقات وكثرتها، مع شهادته أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، وأنه هو الله لا إله إلا هو، وهذا هو الشهود الصحيح المستقيم، وذلك واجب في علم القلب وشهادته وذكره ومعرفته في حال القلب وعبادته وقصده وإرادته ومحبته وموالاته وطاعته، وذلك تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، فإنها تنفي عن قلبه ألوهية ما سوى الحق، وتثبت في قلبه ألوهية الحق، فيكون نافياً لألوهية كل شيء من المخلوقات، مثبتاً لألوهية رب العالمين، رب الأرض والسموات، وذلك يتضمن اجتماع القلب على الله، وعلى مفارقة ما سواه، فيكون مفرقاً في علمه وقصده في شهادته وإرادته في معرفته ومحبته بين الخالق والمخلوق، بحيث يكون عالماً بالله تعالى، ذاكراً له عارفاً به، وهو مع ذلك عالم بمباينته لخلقه، وانفراده عنهم، وتوحده دونهم، ويكون محباً لله، معظماً له، عابداً له، راجياً له، خائفاً منه، موالياً فيه، معادياً فيه، مستعيناً به، متوكلاً عليه، ممتنعاً عن عبادة غيره، والتوكل عليه، والاستعانة به، والخوف منه، والرجاء له، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، والطاعة لأمره، وأمثال ذلك، مما هو من خصائص إلهية الله سبحانه وتعالى.
وإقراره بألوهية الله تعالى دون ما سواه يتضمن إقراره بربوبيته، وهو أنه رب كل شيء ومليكه وخالقه ومدبره، فحينئذ يكون موحداً لله].