ومن هنا نلاحظ أن العبادة اسم جامع لكل ما أمر الله عز وجل به، سواء أكان أمراً إيجابياً أم أمراً سلبياً، ومعنى الأمر الإيجابي طلب الفعل، ومعنى الأمر السلبي طلب الترك، فيدخل في هذا كل حياة الإنسان، ولهذا نجد أن الإنسان في تكوينه إما أن يفعل وإما أن يترك، وليس للإنسان في ذلك شيء آخر، فإما أن يفعل الفعل وإما أن يتركه، فالأفعال التي يفعلها الإنسان هي عبادة يتقرب بها إلى الله عز وجل، وأما التروك التي يتركها الإنسان فإذا قصد بها العبادة فهي عبادة، ويدل على أن العبادة تشمل حياة الإنسان كله أن الإنسان كائن بشري يتحرك في الوجود بأعضائه، والعبادة تشمل جميع أعضاء الإنسان، فهي تشمل حركات البدن الظاهرة، كحركة اليدين والرجلين، فيدخل في هذا القتال في سبيل الله، وهو من أفضل القربات وأفضل العبادات عند الله سبحانه وتعالى، ويدخل في هذا حركة اللسان، فمن العبادات أن يقرأ المرء القرآن وأن يسبح وأن يدعو إلى الله عز وجل، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدخل في هذا عبادات القلب، مثل الخوف من الله والرجاء والتوكل والإنابة والرغبة والرهبة وغير ذلك، ويدخل في ذلك النظر، ولهذا نجد أن الأحكام الشرعية متعلقة بجميع أعضاء الإنسان، كما قال تعالى:{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}[الإسراء:٣٦] فهو مسئول عن هذه الأشياء جميعاً.
إذاً: العبادة تشمل حياة الإنسان كلها، ولا يمكن أن يخلو الإنسان من العبادة، فهو إما أن يكون خاضعاً لله أو خاضعاً لغيره، وسيأتي معنا -إن شاء الله- بيان حقيقة نفسية مهمة جداً، وهي أن طبيعة تكوين الإنسان أن الله عز وجل خلقه محتاجاً، فإما أن يحتاج إلى الله، وهذا من التعبد، وإما أن يرغب عن الاحتياج لله عز وجل فيحتاج إلى غيره، أما إذا تصور أحد أن الإنسان يمكن أن يكون غير عابد لله ولا لغير الله فهذا تصور باطل.
وقد نشأت ملة جديدة في هذه العصر تسمى: الليبرالية، والليبراليون أشخاص يقولون: نحن أحرار من جميع الأديان، أحرار من كل الالتزامات، وليس هناك التزام معين نلتزمه، فنحن أحرار من الأديان جميعاً، النصرانية، واليهودية، والإسلام، والبوذية، فهؤلاء من يعبدون؟ إن بعض الناس يقول لك: لا يعبدون أحداً، وهذا غلط، فهم يعبدون الهوى، ولهذا يقول الله عز وجل:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}[الجاثية:٢٣] فهو يعبد الهوى، أي: يعبد رغبته وشهوته أينما وجهته يتوجه وراءها.
الشيخ يقول: اسم جامع، يعني: يشمل كل ما يحبه الله ويرضاه، والذي يحبه الله ويرضاه نوعان: الواجب والمستحب -وقد يسمى المستحب: مندوباً- من الأقوال والأعمال، والأقوال تشمل أقوال اللسان وأقوال القلب، فأقوال اللسان سبق أن مثلنا لها، وقول القلب هو تصديق بما جاء عن الله وما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله:(الباطنة والظاهرة) ليشمل نشاط الإنسان القلبي ونشاطه الظاهرة ولا شك في أن بين الظاهر والباطن تلازماً مطرداً ومنعكساً، أي: تلازم دائم وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، فلا يتصور أبداً وجود إنسان صالح في الظاهر مائة في المائة، وهو فاسد في الباطن، إلا في حالة واحدة، وهي النفاق، أما أن يكون الإنسان صالحاً في الباطن متقياً لله عز وجل يخاف الله ويخشاه، وفي نفس الوقت لا يكون ذلك ظاهراً على جوارحه فهذا غير متصور إلا في حالة واحدة، وهي حالة الإكراه بحيث يكون مكرهاً، لا يستطيع أن يعبر عما في داخله بأفعاله، ومع هذا لا يتصور أن يكره إنسان بحيث لا يستطيع أن يؤدي عبادة واحدة؛ لأنه يمكن أن يعمل في السر، فيقول سبحان الله، أو ينطق بالشهادة، أو يصلي في السر، أو يعمل أي عمل في السر.
فقوله:(الباطنة والظاهرة) يشمل حياة الإنسان كلها.
ومن هنا نلحظ وهذه قضية مهمة أن العبادة نوعان: فردية وجماعية، فالفردية هي التي يقوم بها الإنسان، مثل الصلاة والصيام والحج، وحقوق الوالدين، وحقوق الجيران، وحقوق الأهل، وما يقوم به من الخوف والرجاء والتوكل وقراءة القرآن، وما يقوم به من ترك الربا وترك الفواحش وترك المحرمات جميعاً، فهذه يمكن أن نسميها عبادة فردية؛ إذ يقوم بها الإنسان وحده.
وهناك عبادات جماعية، كالجهاد في سبيل الله، والدعوة إلى الله، والإصلاح بين الناس، والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه العبادات الجماعية ضرورية جداً لصلاح المجتمع، فإنه متى ما تركت هذه العبادات فسد المجتمع، وبعض الناس يقول: ما لي وللمجتمع، فأهم شيء أن أصلح نفسي.
ونقول: إن الله أوجب عليك إصلاح نفسك وإصلاح غيرك، وإلا فما معنى النصيحة؟ وما معنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وما معنى الجهاد في سبيل الله بالقول واللسان واليد ونحو ذلك؟! وما معنى بناء المجتمع الإسلامي؟ ولماذا ذم الله عز وجل اليهود الذين كانوا يسكتون عن المنكرات؟ ل