فنبدأ أولاً: بطائفة الحلول والاتحاد، أو ما يسمى: بأهل وحدة الوجود، وخلاصة مذهب أهل الحلول والاتحاد وأهل وحدة الوجود: أنه لا يوجد فرق بين الخالق والمخلوق، فليس هناك فرق عندهم بين الخالق والمخلوق؛ فالخالق هو المخلوق والمخلوق هو الخالق، وكل شيء موجود في هذا الكون هو خالق ومخلوق في نفس الوقت، سواء أكان ممدوحاً أو مذموماً، ويمثل هذا المذهب ابن عربي الطائي، وابن سبعين، والعفيف التلمساني ونحوهم من الزنادقة المشركين، وهذه هي حقيقة مذهب هؤلاء، ولهذا وجد في أشعارهم وفي أقوالهم ما يدل على ذلك، فتجد أحدهم يقول: ما في الجبّة إلا الله، يعني الجبة التي يلبسها، أي أنه هو الله، ويقول ابن عربي: العبد رب والرب عبد يا ليت شعري من المكلف؟! إن قلت عبد فذاك رب أو قلت رب أنى يكلف؟ وكذلك يقول في صفة الكلام: وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه يعني أن كل الكلام الموجود في الدنيا من حق وباطل، وصحيح وفاسد، وكلام الرجال والنساء، والغيبة والنميمة، وذكر الله عز وجل، ونهيق الحمير، ونباح الكلاب، وزقزقة العصافير، كل ذلك عنده هو كلام الله عز وجل.
وليس كل الصوفية على هذا المذهب، ولكن القائلين بوحدة الوجود أحرجوا، فقيل لهم: كيف نجمع بين التعدد الموجود مع قولكم: إن هذه الوحدة كلها إله واحد؟! فقد أتيتم بما هو أشنع من رأي النصارى؛ فإن النصارى يقولون: الأب والابن وروح القدس إله واحد، فقال لهم الناس: كيف يكون الثلاثة واحداً؟! فأنتم أتيتم بما هو أدهى! فقالوا: لا، فهذا الكون مثل البحر، والبحر -مثلاً- هو الله عز وجل، وهذه المخلوقات مثل الأمواج، وهذا تخريج كبيرهم الذي علمهم السحر وهو العفيف التلمساني، وهو أخطرهم كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله، وأشدهم فهماً للفلسفة وإدراكاً لها، فهو يشبه الله تعالى بالبحر والمخلوقات بالموج فالموجة الأولى لا تخرج من البحر، بل هي البحر نفسه، وهذا أمر ظاهر الفساد، فإذا كانت الموجة هي البحر فكيف بالموجة الثانية، ولا شك في أن هذه العقيدة أفسد من كل عقيدة فاسدة، بل إنهم قالوا بأن فرعون من أكبر الموحدين، والسبب في أن فرعون من أكبر الموحدين هو أنه قال: أنا ربكم الأعلى، وصدق -هكذا يقولون- في أنه هو ربهم الأعلى، لكن فرعون لما رأى نفسه ملكاً ورأى حوله الجنود اعتقد أن الإله نوعان: أعلى وأسفل، فأضاف نفسه إلى الإله الأعلى فقط.
وابن عربي هذا كفّره العلماء؛ لأن هذه العقيدة هي أكفر عقيدة وجدت على أهل الأرض، فـ شيخ الإسلام رحمه الله في مواطن يقول: لم يأت أحد بمثل العقيدة التي جاء بها هؤلاء، ولهذا استحلوا المحارم، فعندهم لو أن رجلاً نكح ابنته فلا شيء عليه؛ لأن الرب ينكح الرب! هكذا يعتقدون وهكذا يرددون.
وابن عربي الطائي هذا يحسن الظن به آلاف مؤلفة من الناس، والسبب في إحسانهم الظن به هو أن كتابه (الفتوحات المكية) مليء بالمواعظ ومليء بالإرشاد ومليء بالتوجيه ومليء بالكلام الجميل، وكان صاحب عاطفة جياشة وأسلوب حسن، وهو شاعر متميز، لكنه كان على الشرك.
ولا شك في أن عقيدة هؤلاء لا تحتاج إلى ردود تفصيلة؛ لأن فيها إبطالاً لرسائل الأنبياء، بل فيها إبطال لكل الأديان، ولهذا فإن هذه العقيدة -كما يقول أهل العلم- يكفي في نقدها أن تتصورها، فإذا تصورتها وضح نقدها، ولو اشتغلت في نقدها وأطلت لأخذ ذلك منك جهداً كبيراً، فيكفي أن تعلم أنه يقول: إنك أنت الله، وأنت تعرف نفسك.