للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العبودية الاضطرارية لا تفرق بين أهل الجنة والنار ولا يصير بها الرجل مؤمناً

قال ابن تيمية رحمه الله: [ومثل هذه العبودية لا تفرق بين أهل الجنة وأهل النار].

لأن أهل النار يعرفون أن الله عز وجل هو الخالق الرازق المحيي الميت كما سيأتي معنا، لكن هذه لا تفرق بينهم، قال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:١٠٦] فهم مشركون، لم ينفعهم هذا الإقرار المجرد بالربوبية والعبودية الاضطرارية.

قال: [ومثل هذه العبودية لا تفرق بين أهل الجنة وأهل النار، ولا يصير بها الرجل مؤمناً، كما قال الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:١٠٦] فإن المشركين كانوا يقرون أن الله خالقهم ورازقهم، وهم يعبدون غيره، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:٢٥]، وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:٨٤ - ٨٩] وكثير ممن يتكلم في الحقيقة ويشهدها يشهد هذه الحقيقة، وهي الحقيقة الكونية التي يشترك فيها وفي شهودها وفي معرفتها المؤمن والكافر، والبر والفاجر].

يريد شيخ الإسلام ابن تيمية هنا بهذا المقطع من كلامه وما سيأتي أن يبين حالة الصوفية فإن الصوفية من أعظم الناس المشتغلين بالزهد والتعبد، ولكن العبودية التي يشتغل عليها ويعملها الصوفية ويفنون فيها ويهتمون بها، ويعظمونها هي العبودية الاضطرارية التي لا تفرق بين المسلم والكافر، فهم يشتغلون بتعظيم الله عز وجل، في كونه الخالق والرازق والمحيي والمميت، ويعلمون أن الله سبحانه وتعالى هو مدبر هذه الكائنات جميعاً، وأنه لا تصريف إلا لله عز وجل، وهو سبحانه وتعالى الذي بيده مقاليد كل شيء، وهذا جزء من الإيمان.

لكنهم يشتغلون به، ويهملون نوعاً آخر من الإيمان وهو: التعبد الاختياري له، بالمحبة والخضوع له، وأيضاً بالاتباع التام لرسوله في الأمر والنهي، فيهملون هذا النوع؛ ولهذا قد يورثهم هذا شيئاً من التوكل، لكنه بمفهوم سلبي سيأتي الإشارة إليه.

وخلاصة هذا الكلام -حتى نتصور المسألة تصوراً دقيقاً- هو أن العبودية نوعان: عبودية اضطرارية ومعناها: توحيد الربوبية، وعبودية اختيارية ومعناها: توحيد الإلوهية.

ومعنى لا إله إلا الله العبودية الاضطرارية التي يشترك فيها المسلمون والكفار والأحياء والجمادات، فكلهم مضطرون أذلاء لله عز وجل.

وأما العبودية الاختيارية: فهي التي يترتب عليها الثواب والعقاب، وهي التي يقوم الإنسان بها عن رغبة واختيار ويكون مقتضاها الإتيان بالأمر فعلاً والإتيان بالنهي تركاً.

<<  <  ج: ص:  >  >>