والاعتماد على شبهة كالعسل، بعد كونه حسنا يقبح من حيث إنّه قيء زنبور؛ وكبذل المال جودا وسخاءً بعد كونه حسنا يقبح من حيث إنّه إتلاف للأموال وإضلعة لها وإفقار محوج إلى التذلل بالسؤال. وهذا تخييل أدى قوما من البخلاء إلى التصريح بالثناء على البخل الذي أجمع العقلاء على ذمه. وألف سهل بن هارون منهم في ذلك تأليف وقال قائلهم:
يا رب جودٍ فقر امرئ ... فقام في الناس مقام الدليل
فاشدد على مالك واستبقه ... فالبخل خير من سؤال البخيل
وقد عرفت بهذه الجملة إنّه يمكنك أنَّ تمدح الشيء وتذمه بحسب اختلاف اعتباراته من غير تهافت في الكلام ولا تناقض: فإنَ التناقض غير لازم إلاّ لو أردت حسنا وقبحا ومدحا وذما على محل واحد باعتبار واحد، لكن توارده على محلين؛ أو باعتبارين كما بينا. والتفطن لهذه المحال واستخراج هذه الاعتبارات الدقيقة هو مرمى البلغاء، ومجال فرسان الشعر والخطباء وهو محط البيان والسحر الحلال، كما وقع في القصة السابقة: فليس الكلام بمجرد الجمع والتلفيق، ولا الشعر بمجرد الوزن والتقفية كم قيل:
إذا كنت لا تدري سوى الوزن وحده ... فقل أنا وزانٌ وما أنا شاعرُ
وهذا كلام ليس من غرضنا ولكن الحديث شجون. وسنذكر بعد ما للشعراء في مدح الشيب والهرم وذمه ومدح طول الليل وذمه ونحو ذلك. ولنذكر الآن بعض ما ورد مما يدل على ما ذكرنا زيادة على القصة المذكورة. قال مسلمة بن عبد الملك لأخيه هشام: كيف تطمع في الخلافة وأنت بخيل وأنت جبان؟ فقال: لأني حليم وأني عفيف. وقالت للحصين بن المنذر امرأته: كيف سدت وأنت دميم بخيل؟ فقال: لأني سديد الرأي شديد الأقدام.
وصعد خالد بن عبد الله القسري منبر مكة أميرا للوليد بن عبد الملك فأثنى على الحجاج خيرا. فلما كانت الجمعة التالية، وقد مات الوليد، ورد عليه كتاب سليمان يأمره بشتم الحجاج وذكر عيوبه وإظهار البراءة منه. فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنَّ إبليس كان يظهر من طاعة الله عز وجل ما كانت الملائكة ترى له بها فضلا، وكان الله قد علم من غشه ما خفي عن ملائكته. فلما أراد فضحه ابتلاه بالسجود لآدم