وقام إلى من أهل الحيرة يستقي فدفعها إليه، فقرأها الغلام فقال: أنت المتلمس؟ قال: نعم! قال: النجاء! النجاء! قد أمر بقتلك. فجاء بالصحيفة حتى قذفها في نهر الحيرة، ثم قال:
ألقيتها بالثنى من جنب كافر ... كذلك أقنوا كل قط مضلل
رضيت لمّا بالماء لمّا رأيتها ... يجور بها التيار في كل جدول
وقيل انهما مرا في طريقهما ذلك على رجل يتغدى وهو يقضي حاجة الإنسان ويلفي ثوبه. فقال المتلمس: ما رأيت أحمق من هذا. فقال وما رأيت من حمقي؟ إنّما آكل غذائي وأخرج دائي وأقتل أعدائي. وهل الأحمق إلاّ من يحمل حتفه على كتفه؟ أو كلاما نحو هذا. فحينئذ إستراب المتلمس أمر الصحيفة فاستقرأها كما مر، ثم قال لطرفة: تعلم أن في كتابك مثل ما في كتابي؟ فقال طرفة: لئن اجترأ عليك، ما كان ليقدم علي. فلما أعياه طرفة وأبى أن يطيعه، وخرج الملتمس من فوره ذلك إلى الشام هاربا وقال:
من مبلغ الشعراء عن إخوانهم ... نبأ فتصدقهم بذلك الأنفس
أودى الذي علق الصحيفة منهما ... ونجا حذار حياته المتلمس
ولقد نصحت له فرد نصيحتي ... وجرت له بعد السعادة أنحس
وفي ذلك قيل:
ألقى الصحيفة كي يخفف رحله ... والزاد حتى نعله ألقاها
وخرج طرفة حتى أتى صاحب البحرين بكتابه، فدفعه إليه، فقال صاحب البحرين: إني رجل في حسن وبيني وبين أهلك إخاء قديم، فأهرب إذا خرجت من عندي، فقد أمرت بقتلك! فإن كتابك إنَّ قرئ لم أجد بدا من قتلك! فأبى وطن إنّه لا يجترئ على قتله. فحبسه حتى قتله. وفيه يقول طرفة، يخاطب العامل:
أبا منذر كانت غرورا صحيفتي ... ولم أعطكم في الطوع مالي ولا عرضي
آيا منذر أفنيت فأستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض!
[رجع فلان إلى قرواه.]
وروي: القروي بألف مقصورة. يقال: رجع فلان على قرواه، أي رجع إلى خلق