أما الأول وهو المثل، فلا يخفى على ذي ميز ولا يشتبه على ذي لب ما جعل الله تعالى فيه من الحكمة، وأودع فيه من الفائدة، وناط به من الحاجة؛ فأن ضرب المثل يوضح المنبهم، ويفتح المغلق، وبه يصور المعنى في الذهن ويكشف المعمي عند اللبس، وبه يقع الأمر في النفس حسن موقع، وتقبله فضل قبول، وتطمئن به اطمئنانا، وبه يقع إقناع الخصم وقطع تشوف المعترض. وهذا كله معروف بالضرورة، شائع في الخاص والعام، ومتداول في العلوم كلها منقولها ومعقولها، وفي المحاورات والمخاطبات، حتى شاع من كلام عامة المتعلمين والمعلمين قولهم:" بأمثالها تعرف أو تتبين الأشياء " وسر ذلك إنّ المثل يصور المعول بصورة المحسوس، وقد يصور المعدوم بصورة الموجود والغائب بصورة المشاهد الحاضر، فيستعين العقل على إدراك ذلك بالحواس، فيتقوى الإدراك ويتضح المدرك. وتحقيق ذلك أن العقول، وأن كانت تدرك المعلومات، لكنها غير مستقلة بنفسها غلبا في إدراك جميعها ولا جلها استقلالا صرفا لا سيما القاصر. وذلك أن العقول إنما تستقل بإدراك أوائل الضروريات التي توجد في غرائزها ولا تدري لها سبباً غير اختراع الفاعل المختار. وما سوى ذلك فالعقول فيها إما مفتقرة إلى الحواس، كالمعلومات التجريبية التي موادها محسوسة بإحدى الحواس؛ وإما مستعينة بها ضرباً من الاستعانة على طريق التمثيل والتقرير ونحوه. وذلك في غير ذلك. وقد ذهب قوم من الأوائل إلى حصر العلوم في المحسوسات وعكس آخرون، ونحن لا نقول شيئاً من ذلك، وليس هذا محل تقرير المقاتلين ولا ردهما، ولكنا نشير إلى ما نحن بصدده نوع إشارة فنقول: إنّ الإدراك، سواء قلنا إنّه يكن بالعقل وبالحواس الخمس معا، أو قلنا إنّه بالعقل فقط