ألم تر أنَّ الله أوحى لمريم ... فهزي إليك الجذع تساقط الرطب
ولو شاء أن تجنيه من غير هزها ... جنته ولكن كل شيء له سبب
وقال المأمون: لا شيء ألذ من السفر في كفاية، لأنك تحل يوم محلة لم تحللها، وتعاشر قوماً لم تعاشرهم. وقالوا: ربما أسفر السفر، عن الظفر. وقالوا: إنَّ من فضائل السفر أنَّ صاحبه يرى من عجائب الأمصار، ومحاسن الآثار، وأمثال يزيد علما بقدرة الله، ويدعو إلى شكر نعمته. وقالوا: السفر يشد الأبدان، وينشط الكسلان، ويسلي الثكلان، ويشهي الطعام، إذ ليس بينك وبين بلدٍ نسب، فخير البلاد ما حمل. وكتب أبن رشيق إلى بعض إخوانه: مثل الرجل القاعد، أعزك الله! كمثل الماء الراكد، وإنَّ ترك تغير، وإنَّ حرك تكدر؛ ومثل المسافر كالسحاب الماطر، هؤلاء يدعونه نقمة، وهؤلاء يدعونه نعمة. فإذا اتصلت أيامه، ثقل مقامة، وكثر لوامه. فاجمع لنفسك فرجة الغيبة، وفرحة الأوبة! وقالوا: المسافر يسمع العجائب، ويكشف التجارب، ويحلب المكاسب. أوحش أهلك إذا كان انسك في إيحاشهم، واهجر وطنك إذا نبت عنك نفسك! وقيل لأعشى بكر: إلى كم ذا الاغتراب؟ أما ترضى بالدعة؟ فقال: لو دامت الشمس يوماً عليكم لمللتموها. وأخذ أبو تمام فقال:
وطول مقام المرء في الحي مخلق ... لديباجته فأغترب تتجدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة ... إلى الناس أنَّ ليست عليهم بسرمد
وقال الحكماء: لا تنال الراحة إلاّ بالتعب، ولا تدرك الدعة إلاّ بالنصب. وقال أبو تمام:
ولكني لم أحو وفراً مجمعا ... ففزت به إلاّ بشمل مبدد
ولم تعطني الأيام يوماً مسكنا ... ألذ به إلاّ بنوم مشرد
وقال لنابغة الجعدي في هذا المعنى الذي نحن فيه:
إذا المرء لم يطلب معاشاً لنفسه ... شكا الفقر أو لام الصديق فأكثرا
فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا الديار أو تموت فتعذرا