للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقال: يا أمير المؤمنين، إنَّ الإبل إباق ونحن مشايخ ليس بأحدنا فضل على راحلته. فلو أمرت بالرعاة؟ فأمر له بثمانية أعبد وكنت بين يدي عبد الملك صحاف فضة يقرعها بقضيب بيده. فقال جرير: والمحالب، يا أمير المؤمنين؟ وأشار إلى صفحة منها. فنبذها إليه بالقضيب. وفي ذلك قال جرير:

أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية ... ما في عطائهم منٌّ ولا سرف!

قلت: وما ذكر في بيت جرير هو بحسب ما فيه من شمول بذكر العالمين، وإلاّ فلزهير أبيات هي الغرر في جبهات المديح، كقوله:

بل اذكرن خير قيس كلها حسبا ... وخيرها نائلا وخيرها خلقا

فانه يجمع أوصافا من المديح مع السبك العجيب والاتساق البديع. إلاّ إنّه خصصه بقيس وهو لا يوجب كبير قصور، لأنَّ العناية بتفضيل الممدوح وتعليته إنّما هي بحسب أقرانه ومزاحميه في الشرف، مع إنَّ هذا اقرب إلى الصدق، وليس الكذب البشع بممدوح في الشعر. إلاّ إنَّ يريد جرير رهط الممدوح جميعا حتى يدخل النبي صلى الله عليه وسلم فيكون كلامة صدقا. وقوله:

إنَّ تلق يوما على علاته هرما ... تلق السماحة منه والندى خلقا

فإنَّه ترك إثبات السماحة والندى للممدوح إلى إثبات كونهما من سجايا وخلائقه، إيهاما لكون ثبوتهما ليس متوقف العقول، لاتضاحه كالنهار، واشتهاره غاية الاشتهار. ووقع لزهير غير هذا ولغيره أيضاً مما يطول تتبعه.

قالوا: وأهجى بيت قالته العرب قول الأخطل يهجو جريرا:

قوم إذا أستنبح الضيفان كلبهم ... قالوا لأمهم بولي على النار!

وبعده:

فتمسك البول بخلا إنَّ تجود به ... فما تبول لهم إلاّ بمقدار!

وتقدم هذا: واحكم بيت قالته العرب قول طرفة:

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار ما لم تزود

<<  <  ج: ص:  >  >>