ومجيئه يوم القيامة وهو يدمى؛ ليشهد على ظالمه بالقتل، وليظهر شرفه لأهل المشهد والموقف بما فيه من رائحة المسك المشاهدة بالطيب.
وفي هذا الحديث دليل: على فضل الجراحة في سبيل الله.
وفيه دليل: على أن الشهيد لا يزال عنه الدم بغسل ولا غيره؛ للحكمة التي ذكرناها.
وفيه دليل: على أن أحكام القيامة وصفاتها، غيرُ أحكام الدنيا وذواتها؛ فإن الدم في الآخرة يتغير حكمه من النجاسة والرائحة الخبيثة التي في الدنيا، إلى الطهارة والرائحة الطيبة يوم القيامة، وبذلك يقع الإكرام له والتشريف.
ولا يلزم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللونُ لونُ دم" أن يكون دمًا نجسًا حقيقة، كما لا يلزم من كونِ ريحِه ريحَ مسك أن يكون مسكًا حقيقة، بل يجعله الله تعالى شيئًا يشبه هذا، ويشبه هذا، ناشئًا عما فارق الدنيا عليه، كما أن إعادة الأجسام مما كانت عليه في الدنيا، وإن اتصفت بصفات أخر من البقاء والدوام بعد أن كانت غير دائمة ولا باقية، ولهذا يأتون طولًا واحدًا، وسنًّا واحدًا، جُرْدًا مُرْدًا غيرَ مختونين. فعلمنا أن الإعادة حق مما انتقلت عليه، وإن اكتسب أوصافًا لم تكن، فكذلك دم الشهيد يعاد للحكمة التي ذكرناها، وإن اكتسبت أوصافًا لم تكن، ليس حكمه حكمها، ولا فضله فضلها.
وكذلك أهل الوضوء، يبعثون يوم القيامة غرًّا محجلين من آثار الوضوء؛ إكرامًا لهم، وشهادة لهم في الموقف لأهل المشهد بما كان يعمل في الدنيا من التطهر في تلك الأعضاء، والله أعلم.
وقد يستنبط منه: أن الماء المتغير بالنجاسة وغيرها، إذا زال تغيره بنفسه، انتقل من حكمه حالَ تغيره إلى حكمه حالَ زواله، فينتقل من القذارة إلى الطيب، ومن النجاسة إلى الطهارة، وحُكم له بحكم المسك والطيب للشهيد، بخلاف ما إذا زال بغيره بوضع شيء ومعالجة، والله أعلم.