وقولها:"ولم يعزم علينا"؛ أي: لم يؤكَّد علينا في المنع من اتباع الجنائز ما وُكِّد علينا في غيره، فلم نؤمر فيه بعزيمة، والعزيمة دالة على التأكيد، فكأنها قالت: كُره لنا اتباع الجنائز من غير تحريم، وقال بعض الأصوليين: العزيمة: ما أُبيح فعلُه من غير قيام دليل المنع، والرخصة: ما أبيح فعله مع قيام دليل المنع، وهذا خلاف ما دل عليه هذا الحديث، وهو مخالف -أيضًا- لما دل عليه الاستعمال اللغوي من إشعار العزم بالتأكيد؛ فإن هذا القول يدخل تحته المباح الذي لا يقوم دليل الحظر عليه.
وقد وردت أحاديث في التشديد في اتباع النساء أو بعضهن للجنائز أكثر مما يدل عليه هذا الحديث، والذي جاء عن فاطمة - رضي الله عنها - من ذلك إما أن يكون لعلو منصبها، وحديث أم عطية هذا في عموم النساء، أو يكون الحديثان محمولين على اختلاف حالات النساء، وقد أجاز مالك اتباعهن للجنائز، وكرهه للشابة في الأمر المستنكر، وخالفه غيره من أصحابه، فكرهه مطلقًا؛ لظاهر النهي، والله أعلم.
وفي هذا الحديث فوائد منها:
أن النهي إذا بُني لما لم يسمَّ فاعله من النبي - صلى الله عليه وسلم - يضاف إلى الله تعالى دون غيره.
ومنها: كراهة اتباع النساء الجنائز من غير تحريم.
قال القاضي عياض - رحمه الله -: قال جمهور العلماء بمنعهن من اتباعها، وأجازه علماء المدينة، قلت: فإن اقترن باتباعهن لها محرم، أو جر إلى مفسدة، كان حرامًا شديد التحريم.
ومنها: التفرقة بين نهي التنزيه والتحريم في عرف الصحابة بالنسبة إلى العلم، وأما بالنسبة إلى العمل، فلم يفرقوا فيه، بل كانوا يجتنبون المكروه تنزيهًا وتحريمًا مطلقًا، لا لضرورة بيان من اعتقاد أو إلجاء إلى ارتكاب محرم، فيفعلون المكروه تنزيهًا خلوصًا من المحرم، ومن استقرى فعلهم وقولهم وقواعد الشرع، وجد الأمر كما ذكرته، والله أعلم.