اختلفَ الفقهاءُ في كيفية الإقبال والإدبار، هل هو بالنِّسبة إلى الرَّأس، أو بالنِّسبةِ إلى الشَّعر، أو بالنِّسبة إلى النَّاصية إلى الوجه، ثُمَّ إلى مؤخر الرَّأس، ثُمَّ إلى ما بدأ منه؟ على ثلاثة مذاهب.
وهذا الحديث مطلقٌ في الإقبال والإدبار من غير تحديد ابتداء غايةٍ وانتهائِها في الرَّأس، لكنَّه ذكره في الرِّواية الثانية في قوله: بدأ بمقدَّمِ رأسِه حتَّى ذهب بهما إلى قفاه، ثمَّ ردَّهما حتَّى رجع إلى المكان الَّذي بدأ منه، فهذه الرِّواية ظاهرةٌ في الأول، وهو مذهبُ الشّافعي ومالكٍ - رحمهما الله -، وهو أنَّهما قالا: يبدأ بمقدَّم الرَّأس الَّذي يلي الوجهَ، ويذهبُ إلى القفا، ثُمَّ يردُّهما إلى المكان الَّذي بدأ منه، وهو مبتدأ الشَّعر من حدِّ الوجه، ولو لم تردْ روايةُ التَّحديد بالابتداء والانتهاء، لكانَ للإطلاق في الرواية الأولى جوابا من حيث إنّهم قالوا: الإقبال لا يكون ابتداؤه إلا من مؤخَّر الرَّأس، والإدبار لا يكون ابتداؤه إلا من مقدَّم الرَّأس لو سلم، مع أنَّهم استدلُّوا عليه بروايةٍ وردت في حديث الرُّبَيِّعِ بنْتِ مُعَوِّذٍ - رضي الله عنها - حسنةٍ، رواها عنها أبو داود والتِّرمذيّ وابن ماجَهْ، وحسَّنها الترمذيُّ وقال: حديثُ عبدِ الله بنِ زيدٍ أصحُّ من هذا وأجودُ إسنادًا (١)، وهي أنَّه بدأ بمؤخَّر رأسه، ثُمَّ بمقدَّمه، وهي محمولة على الجواز، لا على الأفضل، أو على حالة أو وقت، فلا يعارض ذلك الرِّواية المفسَّرة عن عبد الله بن زيد، والجوابُ عن رواية الإطلاق في الإقبال والإدبار أن الواو لا تدلُّ على التَّرتيب، ويؤيد عدمه ثبوت التَّقييد بالغاية ابتداءً وانتهاءً في الرِّواية الثانية، ويصحُّ -أيضًا- جعلُ الإقبال من جهة الشَّعر من منابته من جهة القفا، والإدبار إليه على معنى الفرق بين الذَّهاب إليه والوصول، وهو بعيد؛ للبدأة بالرَّأس لا بالشَّعر في رواية الكتاب - والله أعلم -.
وفي هذا الحديث دليلٌ على: جواز الاستعانة بإحضار الماء للطهارة بلا كراهة.
(١) رواه أبو داود (١٢٦)، كتاب: الطهارة، باب: صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، والترمذي (٣٣)، كتاب: الطهارة، باب: ما جاء أنه يبدأ بمؤخر الرأس، وابن ماجه (٣٩٠)، كتاب: الطهارة، باب: الرجل يستعين على وضوئه فيصب عليه.