للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الفتوى لأنّه أحضر موادها، وجعل على النّوازل قطع ورق علامة عليها، فإذا أتى السّائل يضع يده على الكتاب الذي يعلم فيه نازلته، ويفتح مظنتها (٥٨٥) فيجد كأنّه وضع العلامة بعد السّؤال، ولا يكتب جواب السّائل حتّى يقرأه عليه، فإذا فرغ من كتب الجواب ناوله السّائل ما تيسّر فيأخذه ويضعه تحت / جلد هو جالس عليه، وهكذا يفعل مع كلّ سائل، فإذا فرغ النّاس من أسئلتهم أتاه قريبه فيعطيه ما حضر فيأخذ ما يحتاجه من حطب وخضرة وزيت وفاكهة، ولحم إن فضل شيء للحم، فيضع ذلك على حمارة ويرجع لأهله. هذا شأنه - رحمه الله - فكان متقلّلا من الدّنيا لا يأخذ منها إلاّ قدر الحاجة، ولمّا مات أعان أهل الفضل على كفنه.

وكان تفقّه على الشّيخ الصّالح سيدي إبراهيم بن عبد الله الجمّني فتقدّم على أقرانه، واتّفق أنّ الشّيخ كان يوما في درسه فدخل إباضي (٥٨٦) يسأل ويقول: إنّكم معشر الأشعرية لا تكفّرون بالذّنب وتقولون بالشّفاعة للمذنبين مع أنّ إبليس أبلسه الله من رحمته، وختم عليه الشقاوة والخلود في النّار، ولم تقع منه إلاّ معصية واحدة هي عدم السّجود لآدم، فكيف بمن وقع في محرمات لا تحصى وفظائع لا تستقصى؟ وكان الشّيخ - رحمه الله - مشغولا بتقرير مسألة فالتفت وقال: ما لهذا الرّجل؟ قالوا: هو يسأل عن كذا وكذا، فقال: من يجيبه منكم؟ فقال الشّيخ صاحب التّرجمة: أنا أجيبه بما نصّ عليه إبن عرفة - رحمه الله تعالى -: إنّ كفره وإبلاسه ليس من عدم السّجود بل من نسبة الباري - جلّ ثناؤه - لعدم الحكمة وتجويره وتخطئته في حكمه لأنّه قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (٥٨٧) {لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} (٥٨٨)، ثمّ توعد بوقاحة ومعارضته لأحكام الحكيم العليم / فقال {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاّ قَلِيلاً} (٥٨٩) إلى غير ذلك ممّا يدلّ على سوء أدبه مع الله، فقال: أجبه بذلك وأنت مفتي إفريقية، فكان غاية في فتواه.

وأخذ عنه خلائق لا تحصى، وأخذنا عنه «كشف الأستار عن علم حروف الغبار» تأليف الشّيخ أبي الحسن علي القلصادي - رحمه الله تعالى - فلمّا أكملنا الجزءين


(٥٨٥) في ط وت: «فطنتها».
(٥٨٦) في الأصول: «وهبي».
(٥٨٧) سورة ص: ٧٦.
(٥٨٨) سورة الحجر: ٣٣.
(٥٨٩) سورة الإسراء: ٦٢.