مُجَانِبًا لِلشَّهَوَاتِ، وَالْعَالِمُ كَبِيرٌ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا، وَالْجَاهِلُ صَغِيرٌ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا.
(فَيَصِحُّ تَقْلِيدُ الْجَاهِلِ) عِنْدَنَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْقَضَاءِ إيصَالُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْعَمَلِ بِفَتْوَى غَيْرِهِ (وَيَخْتَارُ) الْمُقَلِّدُ (الْأَقْدَرَ وَالْأَوْلَى) لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْقَضَاءِ.
وَفِي الْإِصْلَاحِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَصِحُّ تَقْلِيدُ الْفَاسِقِ وَالْجَاهِلِ وَمَا قَالَهُ كَانَ أَحْوَطَ فِي زَمَانِهِ وَفِي زَمَانِنَا، الِاحْتِيَاطُ فِيمَا قُلْنَا لِأَنَّ فِي اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ سُدَّ بَابُ الْقَضَاءِ انْتَهَى.
(وَكُرِهَ التَّقَلُّدُ لِمَنْ خَافَ الْحَيْفَ وَالْعَجْزَ عَنْ الْقِيَامِ بِهِ) أَيْ كُرِهَ قَبُولُ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ لِخَوْفِ الْجَوْرِ أَوْ عَدَمِ إقَامَةِ الْعَدْلِ لِعَجْزِهِ فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لِمَنْ خَافَ الْحَيْفَ أَوْ الْعَجْزَ لَكَانَ أَوْلَى لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَكْفِي كَمَا فِي الْبَحْرِ (وَلَا بَأْسَ بِهِ) أَيْ بِالتَّقَلُّدِ (لِمَنْ يَثِقُ مِنْ نَفْسِهِ بِأَدَاءِ فَرْضِهِ) لِأَنَّ كِبَارَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - تَقَلَّدُوهُ، وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةً، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ الدُّخُولُ مُطْلَقًا بِلَا إجْبَارٍ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ فَكَأَنَّمَا ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْإِمَامَ دُعِيَ لِلْقَضَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَأَبَى حَتَّى حُبِسَ وَجُلِدَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ثَلَاثِينَ سَوْطًا حَتَّى قَالَ لَهُ أَبُو يُوسُفَ: لَوْ تَقَلَّدْتَ لَنَفَعْتَ النَّاسَ، فَنَظَرَ إلَيْهِ شِبْهَ الْمُغْضَبِ، فَقَالَ: لَوْ أُمِرْتُ أَنْ أَقْطَعَ الْبَحْرَ سِبَاحَةً لَكُنْتُ أَقْدَرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْبَحْرُ عَمِيقٌ، وَالسَّفِينَةُ وَثِيقٌ، وَالْمَلَّاحُ عَالِمٌ، فَقَالَ الْإِمَامُ كَأَنِّي بِك قَاضِيًا وَذَكَرَ الْبَزَّازِيُّ فِي مَنَاقِبِهِ أَقْوَالًا حَاصِلُهَا أَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يَقْبَلْ الْقَضَاءَ، وَمَاتَ عَلَى الْإِبَاءِ، وَأَنَّهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَحَسَّ بِمَوْتِهِ وَسَجَدَ فَخَرَجَتْ رُوحُهُ سَاجِدًا سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ، رَوَّحَ اللَّهُ رُوحَهُ وَزَادَ فِي أَعْلَى غُرَفِ الْجِنَانِ فَتَوَّجَهُ وَمِنْ غَرِيبِ مَا وَقَعَ أَنَّهُ جِيءَ بِجِنَازَتِهِ فَازْدَحَمَ النَّاسُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى دَفْنِهِ إلَّا بَعْدَ الْعَصْرِ، وَاسْتَمَرَّ النَّاسُ يُصَلُّونَ عَلَى قَبْرِهِ الشَّرِيفِ عِشْرُونَ، وَحُرِّرَ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ خَمْسُونَ أَلْفًا.
وَفِي الْهِدَايَةِ وَالْكَافِي: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الدُّخُولَ فِيهِ رُخْصَةٌ طَمَعًا فِي إقَامَةِ الْعَدْلِ بِحَدِيثِ " عَدْلُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ " وَالتَّرْكُ عَزِيمَةٌ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ وَرُبَّمَا يَظُنُّ فِي الِابْتِدَاءِ أَنَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ، ثُمَّ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي الِانْتِهَاءِ وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْقَضَاءُ بِالْحَقِّ إلَّا بِإِعَانَةِ غَيْرِهِ وَلَعَلَّ غَيْرَهُ لَا يُعِينُهُ.
(وَمَنْ تَعَيَّنَ لَهُ) أَيْ لِلْقَضَاءِ أَوْ تَعَيَّنَ الْقَضَاءُ لَهُ (فُرِضَ عَلَيْهِ) صِيَانَةً لِحُقُوقِ الْعِبَادِ وَدَفْعًا لِظُلْمِ الظَّالِمِينَ.
وَفِي الْبَحْرِ أَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ إنْ تَعَيَّنَ، وَفَرْضُ كِفَايَةٍ عِنْدَ وُجُودِ غَيْرِهِ، يَعْنِي إنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ قَوْمٌ صَالِحُونَ لَهُ فَامْتَنَعُوا عَنْهُ أَثِمُوا كُلُّهُمْ إنْ لَمْ يَقْدِرْ السُّلْطَانُ فَصْلَ الْقَضَايَا (وَلَا يَطْلُبُ الْقَضَاءَ وَلَا يَسْأَلُهُ) أَيْ مَنْ صَلَحَ لِلْقَضَاءِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَطْلُبَ بِقَلْبِهِ وَلَا يَسْأَلَهُ بِلِسَانِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «مَنْ سَأَلَ الْقَضَاءَ وُكِلَ إلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أُجْبِرَ عَلَيْهِ نَزَلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ يُسَدِّدُهُ» أَيْ يُلْهِمُهُ الرُّشْدَ وَيُوَفِّقُهُ لِلصَّوَابِ وَكَذَا لَا يَسْأَلُهُ الْإِمَارَةَ.
(وَيَجُوزُ تَقَلُّدُهُ مِنْ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ) أَيْ الظَّالِمِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute