إلَى أَشْرَفِ الْجَوَارِحِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَعْظَمُ الْجَرَائِمِ بَعْدَ الْكُفْرِ، ثُمَّ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ إنَّمَا يَجِبُ إذْ كَانَ مَوْضِعُ الشَّاهِدِ قَرِيبًا مِنْ مَوْضِعِ الْقَضَاءِ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجِيءَ إلَى الْقَاضِي وَيَرْجِعَ بَعْدَهُ فِي يَوْمِهِ هَذَا إلَى مَنْزِلِهِ لَا يَأْثَمُ بِتَرْكِهَا، وَلَوْ كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ يَجُوزُ لَهُ الرُّكُوبُ عَلَى مَرْكَبِ الْمُدَّعِي، وَإِلَّا فَلَا.
وَفِي الْبَحْرِ: لَوْ شَهِدَ عِنْدَ الشَّاهِدِ عَدْلَانِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ قَبَضَ دَيْنَهُ أَوْ أَنَّ الزَّوْجَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَوْ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَعْتَقَ الْعَبْدَ أَوْ أَنَّ الْوَلِيَّ عَفَا عَنْ الْقَاتِلِ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ بِالدَّيْنِ وَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَالْقَتْلِ (إلَّا أَنْ يَقُومَ الْحَقُّ بِغَيْرِهِ) بِأَنْ يَكُونَ فِي الصَّكِّ سِوَاهُ مِمَّنْ يَقُومُ بِهِ الْحَقُّ فَحِينَئِذٍ لَا يُفْتَرَضُ، لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَضِيعُ بِامْتِنَاعِهِ وَلِأَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ.
، وَفِي الدُّرَرِ، ثُمَّ إنَّهُ إنَّمَا يَأْثَمُ إذَا عَلِمَ أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ وَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ أَوْ كَانُوا جَمَاعَةً فَأَدَّى غَيْرُهُ - مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فَقُبِلَتْ لَا يَأْثَمُ، وَإِنْ أَدَّى غَيْرُهُ، وَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ يَأْثَمُ مَنْ لَمْ يُؤَدِّ إذَا كَانَ مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّ امْتِنَاعَهُ يُؤَدِّي إلَى تَضْيِيعِ الْحَقِّ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ لَوْ أَخَّرَ الشَّاهِدُ الشَّهَادَةَ بَعْدَ الطَّلَبِ بِلَا عُذْرٍ ظَاهِرٍ، ثُمَّ أَدَّى لَا تُقْبَلُ لِتَمَكُّنِ التُّهْمَةِ.
(وَسَتْرُهَا) أَيْ سَتْرُ الشَّهَادَةِ (فِي الْحُدُودِ أَفْضَلُ) مِنْ أَدَائِهَا يَعْنِي أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يُظْهِرَهَا لِمَا فِيهِ مِنْ إزَالَةِ الْفَسَادِ أَوْ قِلَّتِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَسْتُرَهَا، وَهُوَ أَحْسَنُ «لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلَّذِي شَهِدَ عِنْدَهُ لَوْ سَتَرْته بِثَوْبِك لَكَانَ خَيْرًا لَك» .
وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَقَّنَ الْمُقِرَّ بِالزِّنَاءِ لِدَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُ فَشُهِرَ وَكَفَى بِهِ قُدْوَةً، وَكَذَلِكَ نُقِلَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: ٢٨٣] فَذَلِكَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَفِي الْبَحْرِ تَفْصِيلٌ، فَلْيُطَالَعْ.
(وَيَقُولُ) الشَّاهِدُ (فِي) شَهَادَةِ (السَّرِقَةِ) أَشْهَدُ أَنَّهُ (أَخَذَ) مَالَهُ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَرْكُ الْوَاجِبِ (لَا سَرَقَ) لِلتَّحَرُّزِ عَنْ وُجُوبِ الْحَدِّ وَضَيَاعِ الْمَالِ، لِأَنَّ الْقَطْعَ وَالضَّمَانَ لَا يَجْتَمِعَانِ فَاعْتُبِرَ فِي السَّرِقَةِ السَّتْرُ مَعَ الشَّهَادَةِ.
وَحُكِيَ أَنَّ هَارُونَ الرَّشِيدَ كَانَ مَعَ جَمَاعَةِ الْفُقَهَاءِ وَفِيهِمْ أَبُو يُوسُفَ فَادَّعَى رَجُلٌ عَلَى آخَرَ أَخْذَ مَالِهِ مِنْ بَيْتِهِ فَأَقَرَّ بِالْأَخْذِ فَسَأَلَ الْفُقَهَاءَ فَأَفْتَوْا بِقَطْعِ يَدِهِ، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا لِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ بِالسَّرِقَةِ، وَإِنَّمَا أَقَرَّ بِالْأَخْذِ، فَادَّعَى الْمُدَّعِي أَنَّهُ سَرَقَ، فَأَقَرَّ بِهَا فَأَفْتَوْا بِالْقَطْعِ، وَخَالَفَهُمْ أَبُو يُوسُفَ، فَقَالُوا لَهُ: لِمَ قَالَ: لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ أَوَّلًا بِالْأَخْذِ ثَبَتَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، وَسَقَطَ الْقَطْعُ فَلَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ بَعْدَهُ بِمَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ عَنْهُ فَتَعَجَّبُوا مِنْهُ.
(وَشُرِطَ لِلزِّنَاءِ أَرْبَعَةُ رِجَالٍ) مِنْ الشُّهُودِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: ١٥] وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: ٤] وَلَفْظُ أَرْبَعَةٍ نَصٌّ فِي الْعَدَدِ وَالذُّكُورَةِ كَمَا فِي الْبَحْرِ.
وَأُورِدَ: إنَّكُمْ لَا تَقُولُونَ بِالْمَفْهُومِ فَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ عَدَمُ جَوَازِ الْأَقَلِّ أَجَابَ