فَذَاكَ الَّذِي دُعِيَ إِلَيْهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ وَلَمْ يقرّ به ردّ إلى مَأْمَنَهُ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ، فَقَالَ: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧ الى ١١]
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١)
قَوْلُهُ: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ الِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلتَّعَجُّبِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْإِنْكَارِ، وَعَهْدٌ: اسْمُ يَكُونُ. وَفِي خَبَرِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ كيف، وقدم الاستفهام والثاني للمشركين، وعِنْدَ على هذين: ظرف للعهد، أو ليكون، أَوْ صِفَةٌ لِلْعَهْدِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْخَبَرَ عِنْدَ اللَّهِ، وَفِي الْآيَةِ إِضْمَارٌ. وَالْمَعْنَى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ يَأْمَنُونَ بِهِ مِنْ عَذَابِهِ وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ: مُحَالٌ أَنْ يَثْبُتَ لِهَؤُلَاءِ عَهْدٌ، وَهُمْ أَضْدَادٌ لَكُمْ، مُضْمِرُونَ لِلْغَدْرِ، فَلَا يَطْمَعُوا فِي ذَلِكَ، وَلَا يُحَدِّثُوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، ثُمَّ اسْتَدْرَكَ، فَقَالَ: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَيْ: لَكِنَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلَمْ يَنْقَضُوا، وَلَمْ يَنْكُثُوا، فَلَا تُقَاتِلُوهُمْ، فَمَا دَامُوا مُسْتَقِيمِينَ لَكُمْ عَلَى الْعَهْدِ الَّذِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ قِيلَ: هُمْ بَنُو بَكْرٍ، وَقِيلَ: بَنُو كِنَانَةَ، وَبَنُو ضَمْرَةَ، وَفِي «مَا» وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ زَمَانِيَّةٌ، وَالثَّانِي: أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، وَفِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ وَالِاسْتِقَامَةَ عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ الْمُتَّقِينَ، فَيَكُونُ تَعْلِيلًا لِلْأَمْرِ بِالِاسْتِقَامَةِ. قَوْلُهُ: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أَعَادَ الِاسْتِفْهَامَ التَّعَجِيبِيَّ لِلتَّأْكِيدِ وَالتَّقْرِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ: كَيْفَ يَكُونُ لَهُمْ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ؟
وَالْحَالُ أَنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ بِالْغَلَبَةِ لَكُمْ لَا يَرْقُبُوا أَيْ: لَا يُرَاعُوا فِيكُمْ إِلًّا أَيْ: عَهْدًا وَلا ذِمَّةً. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الْإِلُّ الْعَهْدُ وَالْقَرَابَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانُ:
لَعَمْرُكَ أَنَّ إِلَّكَ مِنْ قُرَيْشٍ ... كَإِلِّ السَّقْبِ من رأل النَّعَامِ
قَالَ الزَّجَّاجُ: الْإِلُّ عِنْدِي عَلَى مَا تُوجِبُهُ اللُّغَةُ يَدُورُ عَلَى مَعْنَى الْحِدَّةِ، وَمِنْهُ الْإِلَّةُ لِلْحَرْبَةِ، وَمِنْهُ: أُذُنٌ مُؤَلَّلَةٌ: أَيْ: مُحَدَّدَةٌ، وَمِنْهُ: قَوْلُ طَرْفَةَ بْنِ الْعَبْدِ يَصِفُ أُذُنَيْ ناقته بالحدة والانتصاب:
مؤلّلتان يعرف العتق «١» فيهما ... كسامعتي شاة بحومل مفرد
(١) . العتق: الكرم والجمال والنجابة والشرف.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute