عَفُوًّا
عَنْ عِبَادِهِ قَدِيراً عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ، فَاقْتَدُوا بِهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّهُ يَعْفُو مَعَ الْقُدْرَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ قَالَ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ يَدْعُوَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَظْلُومًا، فَإِنَّهُ رَخَّصَ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ، وَأَنْ يَصْبِرَ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ ضَافَ رَجُلًا بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ فَلَمْ يُضِفْهُ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُضِفْهُ، لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ قَالَ: كان الضحاك ابن مُزَاحِمٍ يَقُولُ: هَذَا عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، يَقُولُ اللَّهُ: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ، وَكَانَ يَقْرَؤُهَا كَذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ أَيْ: عَلَى كُلِّ حَالٍ، هَكَذَا قَالَ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ التَّحْرِيفِ لِمَعْنَى الْآيَةِ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فَقَدِ انْتَصَرَ» . وَرَوَى نَحْوَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «المستبّان ما قالا، فَعَلَى الْبَادِئِ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ» .
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٥٠ الى ١٥٢]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢)
لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ذَكَرَ الْكُفَّارَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بمحمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَكَانَ ذَلِكَ كَالْكُفْرِ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَالْكُفْرُ بِذَلِكَ كُفْرٌ بِاللَّهِ، وَيَنْبَغِي حَمْلُ قَوْلِهِ:
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ عَلَى أَنَّهُ اسْتَلْزَمَ ذَلِكَ كُفْرَهُمْ بِبَعْضِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ، لَا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ جَمِيعًا، فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَمْ يَكْفُرُوا بِاللَّهِ وَلَا بِجَمِيعِ رُسُلِهِ، لَكِنَّهُمْ لَمَّا كَفَرُوا بِالْبَعْضِ كَانَ ذَلِكَ كُفْرٌ بِاللَّهِ وَبِجَمِيعِ الرُّسُلِ. وَمَعْنَى: وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِالرُّسُلِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ بِبَعْضِهِمْ وَآمَنُوا بِاللَّهِ، فَكَانَ ذَلِكَ تَفْرِيقًا بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ رُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ هُمُ الْيَهُودُ آمَنُوا بِمُوسَى وكفروا بعيسى ومحمد، وكذلك النَّصَارَى آمَنُوا بِعِيسَى وَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أَيْ: يَتَّخِذُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ دِينًا مُتَوَسِّطًا بَيْنَهُمَا، فَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى قَوْلِهِ نُؤْمِنُ وَنَكْفُرُ أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ أَيْ: الْكَامِلُونَ فِي الْكُفْرِ. وَقَوْلُهُ: حَقًّا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، أَيْ: حَقَّ ذَلِكَ حقا، أو هو صفة الْكَافِرِينَ، أَيْ: كُفْرًا حَقًّا. قَوْلُهُ: وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ بِأَنْ يَقُولُوا نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، وَدُخُولُ بَيْنَ عَلَى أَحَدٍ لِكَوْنِهِ عَامًّا فِي الْمُفْرَدِ مُذَكَّرًا وَمُؤَنَّثًا وَمُثَنَّاهُمَا وَجَمْعِهُمَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ. وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ منهم.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute