[[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٥]]
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥)
الْجُنَاحُ: الْإِثْمُ، أَيْ: لَا إِثْمَ عَلَيْكُمْ وَالتَّعْرِيضُ: ضِدُّ التَّصْرِيحِ، وَهُوَ مِنْ عَرَضَ الشَّيْءَ، أَيْ: جَانَبَهُ، كَأَنَّهُ يَحُومُ بِهِ حَوْلَ الشَّيْءِ وَلَا يُظْهِرُهُ وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِكَ: عَرَّضْتُ الرَّجُلَ، أَيْ: أَهْدَيْتُ لَهُ. وَمِنْهُ:
أَنَّ رَكْبًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَرَّضُوا رسول الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ ثِيَابًا بِيضًا، أَيْ: أَهْدَوْا لَهُمَا، فَالْمُعَرِّضُ بِالْكَلَامِ يُوصِلُ إِلَى صَاحِبِهِ كَلَامًا يَفْهَمُ مَعْنَاهُ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ، أَنَّ الْكِنَايَةَ: أَنْ يَذْكُرَ الشَّيْءَ بِغَيْرِ لَفْظِهِ الْمَوْضُوعِ لَهُ. وَالتَّعْرِيضُ: أَنْ يَذْكُرَ شَيْئًا يَدُلُّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَذْكُرْهُ، كَمَا يَقُولُ الْمُحْتَاجُ لِلْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ: جِئْتُكَ لِأُسَلِّمَ عَلَيْكَ، وَلِأَنْظُرَ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا:
وحسبك بالتسليم منّي تقاضيا كأنه إِمَالَةُ الْكَلَامِ إِلَى عَرَضٍ يَدُلُّ عَلَى الْغَرَضِ، وَيُسَمَّى: التَّلْوِيحُ، لِأَنَّهُ يَلُوحُ مِنْهُ مَا يُرِيدُهُ. انْتَهَى. وَالْخِطْبَةُ بِالْكَسْرِ: مَا يَفْعَلُهُ الطَّالِبُ مِنَ الطَّلَبِ، وَالِاسْتِلْطَافِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، يُقَالُ: خَطَبَهَا يَخْطُبُهَا خِطْبَةً وَخِطْبًا.
وَأَمَّا الْخُطْبَةُ بِضَمِّ الْخَاءِ: فَهِيَ الْكَلَامُ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الرَّجُلُ خَاطِبًا. وَقَوْلُهُ: أَكْنَنْتُمْ مَعْنَاهُ: سَتَرْتُمْ، وَأَضْمَرْتُمْ مِنَ التَّزْوِيجِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. وَالْإِكْنَانُ: التَّسَتُّرُ وَالْإِخْفَاءُ، يُقَالُ: أَكْنَنْتُهُ وَكَنَنْتُهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
وَمِنْهُ: بِيضٌ مَكْنُونٌ، وَدُرٌّ مَكْنُونٌ. وَمِنْهُ أَيْضًا: أَكَنَّ الْبَيْتُ صَاحِبَهُ، أَيْ: سَتَرَهُ. وَقَوْلُهُ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ أَيْ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ لَا تَصْبِرُونَ عَنِ النُّطْقِ لَهُنَّ بِرَغْبَتِكُمْ فِيهِنَّ، فَرَخَّصَ لَكُمْ فِي التَّعْرِيضِ دُونَ التَّصْرِيحِ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: إِنَّ فِيهِ طَرَفًا مِنَ التَّوْبِيخِ كَقَوْلِهِ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ «١» . وَقَوْلُهُ: وَلكِنْ لَا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا مَعْنَاهُ: عَلَى سِرٍّ، فَحَذَفَ الْحَرْفَ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولَيْنِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى السِّرِّ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ: نِكَاحًا، أَيْ: لَا يَقُلِ الرَّجُلُ لِهَذِهِ الْمُعْتَدَّةِ تَزَوَّجِينِي، بَلْ يُعَرِّضُ تَعْرِيضًا. وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ هَذَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَقِيلَ السِّرُّ: الزِّنَا، أَيْ:
لَا يَكُنْ مِنْكُمْ مُوَاعَدَةٌ عَلَى الزِّنَا فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ التَّزْوِيجِ بَعْدَهَا. قَالَهُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَبُو مِجْلَزٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحُطَيْئَةِ:
وَيَحْرُمُ سِرُّ جَارَتِهِمْ عَلَيْهِمْ ... وَيَأْكُلُ جَارُهُمْ أُنُفَ الْقِصَاعِ
وَقِيلَ: السِّرُّ: الْجِمَاعُ، أَيْ: لَا تَصِفُوا أَنْفُسَكُمْ لَهُنَّ بِكَثْرَةِ الْجِمَاعِ تَرْغِيبًا لَهُنَّ فِي النِّكَاحِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي مَعْنَى الْآيَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْيَوْمَ أَنَّنِي ... كَبِرْتُ وَأَنْ لَا يُحْسِنَ السِّرَّ أمثالي
ومثله قول الأعشى:
فلن يطلبوا سرّها للغنى ... ولن يسلموها لإزهادها
(١) . البقرة: ١٨٧.