[سورة النساء (٤) : الآيات ٣٧ الى ٤٢]
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١)
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (٤٢)
قَوْلُهُ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ هُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ كانَ مُخْتالًا أَوْ عَلَى الذَّمِ، أَوْ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مقدّر، أَيْ: لَهُمْ كَذَا وَكَذَا مِنَ الْعَذَابِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي قَوْلِهِ: مُخْتالًا فَخُوراً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى تَقْدِيرِ: أَعْنِي، أَوْ مَرْفُوعًا عَلَى الْخَبَرِ، وَالْمُبْتَدَأُ مُقَدَّرٌ، أَيْ: هُمُ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْبَدَلِ. وَالْبُخْلُ الْمَذْمُومُ فِي الشَّرْعِ: هُوَ الِامْتِنَاعُ مِنْ أَدَاءِ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ، وَهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، ضَمُّوا إِلَى مَا وَقَعُوا فِيهِ مِنَ الْبُخْلِ الَّذِي هُوَ أَشَرُّ خِصَالِ الشَّرِّ مَا هُوَ أَقْبَحُ مِنْهُ وَأَدَلُّ عَلَى سُقُوطِ نَفْسِ فَاعِلِهِ، وَبُلُوغِهِ فِي الرَّذَالَةِ إِلَى غَايَتِهَا، وَهُوَ أَنَّهُمْ مَعَ بُخْلِهِمْ بِأَمْوَالِهِمْ وَكَتْمِهِمْ لِمَا أَنْعَمَ الله به عليهم من فضله يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ كَأَنَّهُمْ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ مِنْ جُودِ غَيْرِهِمْ بِمَالِهِ حَرَجًا وَمَضَاضَةً، فَلَا كَثَّرَ فِي عِبَادِهِ مِنْ أَمْثَالِكُمْ، هَذِهِ أَمْوَالُكُمْ قَدْ بَخِلْتُمْ بِهَا لِكَوْنِكُمْ تَظُنُّونَ انْتِقَاصَهَا بِإِخْرَاجِ بَعْضِهَا فِي مَوَاضِعِهِ، فَمَا بَالُكُمْ بَخِلْتُمْ بِأَمْوَالِ غَيْرِكُمْ؟ مَعَ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُكُمْ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ، وهل هذا إلا غاية اللؤم، وَنِهَايَةُ الْحُمْقِ وَالرَّقَاعَةِ، وَقُبْحِ الطِّبَاعِ، وَسُوءِ الِاخْتِيَارِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ اخْتِلَافُ الْقِرَاءَاتِ فِي الْبُخْلِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْآيَةِ: الْيَهُودُ، فَإِنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الِاخْتِيَالِ وَالْفَخْرِ وَالْبُخْلِ بِالْمَالِ وَكِتْمَانِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا: الْمُنَافِقُونَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ اللَّفْظَ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَكْثَرُ شُمُولًا، وَأَعَمُّ فَائِدَةً، قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّ الْأَوَّلِينَ قَدْ فَرَّطُوا بِالْبُخْلِ، وَبِأَمْرِ النَّاسِ بِهِ، وَبِكَتْمِ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَهَؤُلَاءِ أَفْرَطُوا بِبَذْلِ أَمْوَالِهِمْ فِي غَيْرِ مَوَاضِعِهَا، لِمُجَرَّدِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَتَسَامَعَ النَّاسُ بِأَنَّهُ كَرِيمٌ، وَيَتَطَاوَلَ عَلَى غَيْرِهِ بِذَلِكَ، وَيَشْمَخَ بِأَنْفِهِ عَلَيْهِ، مَعَ مَا ضُمَّ إِلَى هَذَا الْإِنْفَاقِ الَّذِي يَعُودُ عَلَيْهِ بِالضَّرَرِ مِنْ عدم الإيمان بالله واليوم الْآخِرِ. قَوْلُهُ: وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَرِينُهُمُ الشَّيْطَانُ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً وَالْقَرِينُ: الْمُقَارِنُ، وهو الصاحب والخليل. والمعنى: من قبل من الشَّيْطَانَ فِي الدُّنْيَا فَقَدْ قَارَنَهُ فِيهَا، أَوْ فَهُوَ قَرِينُهُ فِي النَّارِ، فَسَاءَ الشَّيْطَانُ قَرِينًا وَماذا عَلَيْهِمْ أَيْ: عَلَى هَذِهِ الطَّوَائِفِ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ ابْتِغَاءً لِوَجْهِهِ، وَامْتِثَالًا لِأَمْرِهِ، أَيْ: وَمَاذَا يَكُونُ عَلَيْهِمْ مِنْ ضَرَرٍ لَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ. قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ الْمِثْقَالُ: مِفْعَالٌ مِنَ الثِّقَلِ، كَالْمِقْدَارِ مِنَ الْقَدْرِ، وَهُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَفْعُولٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: لَا يَظْلِمُ شَيْئًا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ. وَالذَّرَّةُ: وَاحِدَةُ الذَّرِّ. وَهِيَ النَّمْلُ الصِّغَارُ وَقِيلَ: رَأْسُ النَّمْلَةِ، وَقِيلَ: الذَّرَّةُ:
الْخَرْدَلَةُ وَقِيلَ: كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْهَبَاءِ الَّذِي يَظْهَرُ فِيمَا يَدْخُلُ مِنَ الشَّمْسِ مِنْ كُوَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا ذَرَّةٌ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ الَّذِي يَجِبُ حَمْلُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْكَلَامِ أَنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ كَثِيرًا وَلَا قَلِيلًا، أَيْ: لَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute