فِي تَارِيخِهِ، مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَرَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِقَوْمٍ يَتَحَدَّثُونَ فَقَالَ: فِيمَ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَتَذَاكَرُ الْمُرُوءَةَ، فقال: أو ما كَفَاكُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ إِذْ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ فَالْعَدْلُ الْإِنْصَافُ، وَالْإِحْسَانُ التَّفَضُّلُ، فَمَا بَقِيَ بَعْدَ هذا؟.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٩١ الى ٩٦]
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥)
مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦)
خَصَّ سُبْحَانَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَأْمُورَاتِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ فَقَالَ:
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فِي كُلِّ عَهْدٍ يَقَعُ مِنَ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ عَهْدِ الْبَيْعَةِ وَغَيْرِهِ، وَخَصَّ هَذَا الْعَهْدَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ بِالْعَهْدِ الْكَائِنِ فِي بَيْعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَهُوَ خِلَافُ مَا يُفِيدُهُ الْعَهْدُ الْمُضَافُ إِلَى اسْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الْعُمُومِ الشَّامِلِ لِجَمِيعِ عُهُودِ اللَّهِ، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ السَّبَبَ خَاصٌّ بِعَهْدٍ مِنَ الْعُهُودِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُوجِبًا لِقَصْرِهِ عَلَى السَّبَبِ، فَالِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالْيَمِينِ، وَهُوَ مَدْفُوعٌ بِذِكْرِ الْوَفَاءِ بِالْأَيْمَانِ بَعْدَهُ حَيْثُ قَالَ سُبْحَانَهُ: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها أَيْ: بَعْدَ تَشْدِيدِهَا وَتَغْلِيظِهَا وَتَوْثِيقِهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ اخْتِصَاصَ النَّهْيِ عَنِ النَّقْضِ بِالْأَيْمَانِ الْمُؤَكَّدَةِ، لَا بِغَيْرِهَا مِمَّا لَا تَأْكِيدَ فِيهِ، فَإِنَّ تَحْرِيمَ النَّقْضِ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ، وَلَكِنْ فِي نَقْضِ الْيَمِينِ الْمُؤَكَّدَةِ مِنَ الْإِثْمِ فَوْقَ الْإِثْمِ الَّذِي فِي نَقْضِ مَا لَمْ يُوَكَّدْ مِنْهَا، يُقَالُ وَكَّدَ وَأَكَّدَ تَوْكِيدًا وَتَأْكِيدًا، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:
الْأَصْلُ الْوَاوُ وَالْهَمْزَةُ بَدَلٌ مِنْهَا، وَهَذَا الْعُمُومُ مَخْصُوصٌ بِمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» حَتَّى بَالَغَ فِي ذَلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
«وَاللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي» وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَيُخَصُّ أَيْضًا مِنْ هَذَا الْعُمُومِ يَمِينُ اللَّغْوِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ «١» ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْيِيدُ بِالتَّوْكِيدِ هُنَا لِإِخْرَاجِ أَيْمَانِ اللَّغْوِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ الْكَلَامِ عَلَى الْأَيْمَانِ فِي الْبَقَرَةِ وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا أَيْ: شَهِيدًا، وَقِيلَ: حَافِظًا، وَقِيلَ: ضَامِنًا، وقيل:
(١) . البقرة: ٢٢٥.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute