[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)
أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِلْكُفَّارِ هَذَا الْمَعْنَى، وَسَوَاءٌ قَالَهُ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ أَوْ غَيْرِهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ الْكِسَائِيُّ: إِنَّهُ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قُلْ لِلَّذِينِ كَفَرُوا إِنْ تَنْتَهُوا يَعْنِي بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقٍ لِمَا تَأَدَّتِ الرِّسَالَةُ إِلَّا بِتِلْكَ الْأَلْفَاظِ بِعَيْنِهَا. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: أَيْ: قُلْ لِأَجْلِهِمْ هَذَا الْقَوْلَ، وَهُوَ إِنْ يَنْتَهُوا وَلَوْ كَانَ بِمَعْنَى: خَاطِبْهُمْ، لَقِيلَ: إِنْ تَنْتَهُوا يَغْفِرُ لَكُمْ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَنَحْوُهُ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ «١» خَاطَبُوا بِهِ غَيْرَهُمْ لِأَجْلِهِمْ لِيَسْمَعُوهُ، أَيْ:
إِنْ يَنْتَهُوا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عَدَاوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِتَالِهِ بِالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ لَهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ، انْتَهَى. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: إِنْ يَنْتَهُوا عَنِ الْكُفْرِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْحَامِلُ على هذا جواب الشرط:
يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ، وَمَغْفِرَةُ مَا قَدْ سَلَفَ لَا تَكُونُ إِلَّا لِمُنْتَهٍ عَنِ الْكُفْرِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلُهُ وَإِنْ يَعُودُوا إِلَى الْقِتَالِ وَالْعَدَاوَةِ، أَوْ إِلَى الْكُفْرِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ الْعَوْدُ بِمَعْنَى الِاسْتِمْرَارِ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ هَذِهِ الْعِبَارَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ وَالتَّمْثِيلِ بِمَنْ هَلَكَ مِنَ الْأُمَمِ فِي سَالِفِ الدَّهْرِ بِعَذَابِ اللَّهِ أَيْ: قَدْ مَضَتْ سُنَّةُ اللَّهِ فِيمَنْ فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِ هَؤُلَاءِ مِنَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْأُمَمِ أَنْ يُصِيبَهُ بِعَذَابٍ، فَلْيَتَوَقَّعُوا مِثْلَ ذَلِكَ وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ أَيْ: كُفْرٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذَا فِي الْبَقَرَةِ مُسْتَوْفًى فَإِنِ انْتَهَوْا عَمَّا ذُكِرَ فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ مِنَ الِانْتِهَاءِ، وَإِنْ تَوَلَّوْا عَمَّا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الِانْتِهَاءِ، فَاعْلَمُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ أَيْ: نَاصِرُكُمْ عَلَيْهِمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ فَمَنْ وَالَاهُ فَازَ، وَمِنْ نَصَرَهُ غَلَبَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ قَالَ: فِي قُرَيْشٍ وَغَيْرِهَا يَوْمَ بَدْرٍ، وَالْأُمَمُ قَبْلَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: لَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَدَكَ فَلْأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يمينه فقبضت يدي، قال: مالك؟ قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ، قَالَ: «تَشْتَرِطُ مَاذَا» ؟ قُلْتُ: أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِي، قَالَ:
«أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ» .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَالتَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا» . وَقَدْ فَسَّرَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ قَوْلَهُ تَعَالَى فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ بِمَا مَضَى فِي الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ عَذَابِ مَنْ قَاتَلَ الْأَنْبِيَاءَ وَصَمَّمَ عَلَى الْكُفْرِ، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ يَوْمَ بَدْرٍ. وَفَسَّرَ جُمْهُورُ السَّلَفِ الْفِتْنَةَ الْمَذْكُورَةَ هُنَا بِالْكُفْرِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: بَلَغَنِي عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَائِنَا حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ حَتَّى لا يفتن مسلم عن دينه.
(١) . الأحقاف: ١١.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute