[سورة ص (٣٨) : الآيات ٧١ الى ٨٨]
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥)
قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠)
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥)
قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨)
لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ خُصُومَةَ الْمَلَائِكَةِ إِجْمَالًا فِيمَا تَقَدَّمَ ذَكَرَهَا هُنَا تَفْصِيلًا، فَقَالَ: إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِذْ هَذِهِ هِيَ بدل من إِذْ يَخْتَصِمُونَ لِاشْتِمَالِ مَا فِي حَيِّزِ هَذِهِ عَلَى الْخُصُومَةِ. وَقِيلَ: هِيَ مَنْصُوبَةٌ بِإِضْمَارِ اذْكُرْ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى إِذَا كَانَتْ خُصُومَةُ الْمَلَائِكَةِ فِي شَأْنِ مَنْ يَسْتَخْلِفُ فِي الْأَرْضِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَالثَّانِي أَوْلَى إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ أَيْ: خَالِقٌ فِيمَا سَيَأْتِي مِنَ الزَّمَنِ بَشَراً: أَيْ جِسْمًا مِنْ جِنْسِ الْبَشَرِ مَأْخُوذٌ مِنْ مُبَاشَرَتِهِ لِلْأَرْضِ، أَوْ مِنْ كَوْنِهِ بَادِيَ الْبَشَرَةِ. وَقَوْلُهُ:
مِنْ طِينٍ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ هُوَ صِفَةٌ لِبَشَرٍ أَوْ بِخَالِقٍ وَمَعْنَى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ صَوَّرْتُهُ عَلَى صُورَةِ البشر، وصارت أَجْزَاؤُهُ مُسْتَوِيَةً وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي أَيْ: مِنَ الرُّوحِ الَّذِي أَمْلِكُهُ، وَلَا يَمْلِكُهُ غَيْرِي.
وَقِيلَ: هُوَ تَمْثِيلٌ، وَلَا نَفْخَ وَلَا مَنْفُوخَ فِيهِ. وَالْمُرَادُ: جَعَلَهُ حَيًّا بَعْدَ أَنْ كَانَ جَمَادًا لَا حَيَاةَ فِيهِ. وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ في هذا في سورة الحجر فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ هُوَ أَمْرٌ مِنْ وَقَعَ يَقَعُ، وَانْتِصَابُ سَاجِدِينَ عَلَى الْحَالِ، وَالسُّجُودُ هُنَا: هُوَ سُجُودُ التَّحِيَّةِ، لَا سُجُودُ الْعِبَادَةِ، وَقَدْ مَضَى تَحْقِيقُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ الْفَاءُ وَالتَّقْدِيرُ: فَخَلَقَهُ فَسَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، فَسَجَدَ لَهُ الْمَلَائِكَةُ. وَقَوْلُهُ:
كُلُّهُمْ يُفِيدُ أَنَّهُمْ سَجَدُوا جَمِيعًا وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَقَوْلُهُ: أَجْمَعُونَ يُفِيدُ أَنَّهُمُ اجْتَمَعُوا عَلَى السُّجُودِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ: فَالْأَوَّلُ لِقَصْدِ الْإِحَاطَةِ، وَالثَّانِي: لِقَصْدِ الِاجْتِمَاعِ. قال في الكشاف: فأفاد مَعًا أَنَّهُمْ سَجَدُوا عَنْ آخِرِهِمْ مَا بَقِيَ مِنْهُمْ مَلَكٌ إِلَّا سَجَدَ، وَأَنَّهُمْ سَجَدُوا جَمِيعًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ غَيْرَ مُتَفَرِّقِينَ فِي أَوْقَاتٍ. وَقِيلَ: إِنَّهُ أَكَّدَ بِتَأْكِيدَيْنِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّعْمِيمِ إِلَّا إِبْلِيسَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ كَانَ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْمَلَائِكَةِ دَاخِلًا فِي عِدَادِهِمْ فَغَلَبُوا عَلَيْهِ، أَوْ مُنْقَطِعٌ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ عَدَمِ دُخُولِهِ فِيهِمْ أَيْ لَكِنَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ أَيْ: أَنِفَ مِنَ السُّجُودِ جَهْلًا منه بأنه طاعة لله، وَكان اسْتِكْبَارُهُ اسْتِكْبَارَ كُفْرٍ، فَلِذَلِكَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ أَيْ: صَارَ مِنْهُمْ بِمُخَالَفَتِهِ لِأَمْرِ اللَّهِ وَاسْتِكْبَارِهِ عَنْ طَاعَتِهِ، أَوْ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ فِي عِلْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَالْأَعْرَافِ، وَبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالْكَهْفِ، وَطه. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ سَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ تَرْكِهِ لِلسُّجُودِ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ فَ قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَيْ: مَا صَرَفَكَ وَصَدَّكَ عَنِ السُّجُودِ لِمَا تَوَلَّيْتُ خَلْقَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَأَضَافَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute