[سورة يونس (١٠) : الآيات ٨٨ الى ٩٢]
وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (٨٩) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢)
لَمَّا بَالَغَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي إِظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ وَإِقَامَةِ الْحُجَجِ البينات، ولم يكن لذلك تأثير في من أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ دَعَا عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ سَبَبَ إِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ، وَتَمَسُّكِهِمْ بِالْجُحُودِ وَالْعِنَادِ، فَقَالَ مُبَيِّنًا لِلسَّبَبِ أَوَّلًا:
رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَلَأَ هُمُ الْأَشْرَافُ، وَالزِّينَةُ:
اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ: مِنْ مَلْبُوسٍ وَمَرْكُوبٍ وَحَلْيَةٍ وَفِرَاشٍ وَسِلَاحٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ كَرَّرَ النِّدَاءَ لِلتَّأْكِيدِ فَقَالَ: رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ اللَّامِ الدَّاخِلَةِ على الفعل، فقال الخليل وسيبويه: إنه لَامُ الْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ. وَالْمَعْنَى:
أَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمُ الضَّلَالَ صَارَ كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْطَاهُمْ مِنَ النِّعَمِ لِيُضِلُّوا، فَتَكُونُ اللَّامُ عَلَى هَذَا مُتَعَلِّقَةً بِآتَيْتَ وَقِيلَ: إِنَّهَا لَامُ كَيْ أَيْ: أَعْطَيْتَهُمْ لِكَيْ يُضِلُّوا. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ الْمَعْنَى أَعْطَيْتَهُمْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَضِلُّوا، فَحُذِفَتْ لَا كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا «١» . قَالَ النَّحَّاسُ: ظَاهِرُ هَذَا الْجَوَابِ حَسَنٌ إِلَّا أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَحْذِفُ لَا إِلَّا مَعَ أَنْ، فَمَوَّهَ صَاحِبُ هَذَا التَّأْوِيلِ بِالِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا، وَقِيلَ: اللَّامُ لِلدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ. وَالْمَعْنَى: ابْتَلِهِمْ بِالْهَلَاكِ عَنْ سَبِيلِكَ، وَاسْتَدَلَّ هَذَا الْقَائِلُ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ بَعْدَ هَذَا: اطْمِسْ وَاشْدُدْ. وَقَدْ أَطَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْأَوْلَى. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ لِيُضِلُّوا بِضَمِّ حَرْفِ الْمُضَارَعَةِ أَيْ: يُوقِعُوا الْإِضْلَالَ عَلَى غَيْرِهِمْ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ، أَيْ: يَضِلُّونَ فِي أَنْفُسِهِمْ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: طَمْسُ الشَّيْءِ:
إِذْهَابُهُ عَنْ صُورَتِهِ وَالْمَعْنَى: الدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَمْحَقَ اللَّهُ أَمْوَالَهُمْ وَيُهْلِكَهَا، وَقُرِئَ: بِضَمِّ الْمِيمِ مِنِ اطْمُسْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ أَيِ: اجْعَلْهَا قَاسِيَةً مَطْبُوعَةً لَا تَقْبَلُ الْحَقَّ، وَلَا تَنْشَرِحُ لِلْإِيمَانِ، قَوْلُهُ فَلا يُؤْمِنُوا قَالَ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى لِيُضِلُّوا، وَالْمَعْنَى: آتَيْتَهُمُ النِّعَمَ لِيُضِلُّوا وَلَا يُؤْمِنُوا، وَيَكُونُ ما بين المعطوف عَلَيْهِ اعْتِرَاضًا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ دُعَاءٌ بِلَفْظِ النَّهْيِ، وَالتَّقْدِيرُ: اللَّهُمَّ فَلَا يُؤْمِنُوا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
فَلَا يَنْبَسِطْ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْكَ مَا انْزَوَى ... وَلَا تَلْقَنِي إِلَّا وَأَنْفُكَ رَاغِمُ
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّهُ جَوَابُ الْأَمْرِ، أَيِ: اطْمِسْ وَاشْدُدْ فَلَا يُؤْمِنُوا، فَيَكُونُ مَنْصُوبًا. وروي هذا عن الفرّاء أيضا، ومنه:
(١) . النساء: ١٧٦.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute