وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ التَّحِيَّةُ. قِيلَ: وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ، وَقِيلَ: لِلْعَهْدِ، أَيْ: وَذَلِكَ السَّلَامُ الْمُوَجَّهُ إِلَى يَحْيَى فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ الثَّلَاثَةِ مُوَجَّهٌ إِلَيَّ. قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمِ الْمَسِيحُ بَعْدَ هَذَا الْكَلَامِ حَتَّى بَلَغَ الْمُدَّةَ الَّتِي تَتَكَلَّمُ فِيهَا الصِّبْيَانُ فِي الْعَادَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قَالَ:
بَعْدَ أربعين يوما بعد ما تعافت مِنْ نِفَاسِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ نَجْرَانَ، فَقَالُوا: أَرَأَيْتَ مَا تقرؤون يَا أُخْتَ هارُونَ وَمُوسَى قَبْلَ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَرَجَعْتُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:
«أَلَا أَخْبَرْتَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ؟» وَهَذَا التَّفْسِيرُ النَّبَوِيُّ يُغْنِي عَنْ سَائِرِ مَا رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ عِيسَى قَدْ دَرَسَ الْإِنْجِيلَ وَأَحْكَامَهَا فِي بَطْنِ أُمِّهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: آتانِيَ الْكِتابَ الْآيَةَ، قَالَ: قَضَى أَنْ أَكُونَ كَذَلِكَ. وَأَخْرَجَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي مُعْجَمِهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ النَّجَّارِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِ عِيسَى: وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ قَالَ: جَعَلَنِي نَفَّاعًا لِلنَّاسِ أَيْنَمَا اتَّجَهْتُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَنِي مُبارَكاً قَالَ: «مُعَلِّمًا وَمُؤَدِّبًا» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا يقول: عصيّا.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٣٤ الى ٤٠]
ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠)
الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الْمُتَّصِفِ بِالْأَوْصَافِ السَّابِقَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: ذَلِكَ الَّذِي قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، لَا مَا تَقُولُهُ النَّصَارَى مِنْ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ وَأَنَّهُ إِلَهٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ قَوْلَ الْحَقِّ بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ. فَوَجْهُ الْقِرَاءَةِ الْأُولَى أَنَّهُ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْمَدْحِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ لِ قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَوَجْهُ الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ نَعْتٌ لِعِيسَى أَيْ: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلُ الْحَقِّ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ. وَسُمِّيَ قَوْلَ الْحَقِّ كَمَا سُمِّيَ كَلِمَةَ اللَّهِ، وَالْحَقُّ: هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ:
الْمَعْنَى هُوَ قَوْلُ الْحَقِّ وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: هَذَا الْكَلَامُ قَوْلُ الْحَقِّ، وَهُوَ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ، مِثْلُ حَقُّ الْيَقِينِ وَقِيلَ: الْإِضَافَةُ لِلْبَيَانِ، وَقُرِئَ: «قَالَ الْحَقَّ» ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ قَوْلَ الْحَقِّ بِضَمِّ الْقَافِ، وَالْقَوْلُ وَالْقُولُ وَالْقَالُ والمقال بمعنى واحد، والَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ