فَرَمَى بِهَا أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ وَكَسَرَ ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ، فَرَجَعَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ إِلَى أَصْحَابِهِ ثَقِيلًا، فَاحْتَمَلُوهُ حِينَ وَلَّوْا قَافِلِينَ، فَطَفِقُوا يَقُولُونَ لَا بَأْسَ، فَقَالَ أُبَيٌّ حِينَ قَالُوا لَهُ ذَلِكَ: وَاللَّهِ لَوْ كَانَتْ بِالنَّاسِ لَقَتَلَتْهُمْ، أَلَمْ يَقُلْ إِنِّي أَقْتُلُكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَانْطَلَقَ بِهِ أَصْحَابُهُ يُنْعِشُونَهُ حَتَّى مَاتَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَدَفَنُوهُ. قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ:
وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالزُّهْرِيِّ نَحْوَهُ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ إِلَيْهِمَا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ عَنْ هَذَيْنِ الْإِمَامَيْنِ غَرِيبٌ جِدًّا، وَلَعَلَّهُمَا أَرَادَا أَنَّ الْآيَةَ تتناولهما بعمومها، وهكذا قال فيما قال عبد الرحمن ابن جُبَيْرٍ كَمَا سَيَأْتِي- وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ عبد الرحمن بن جبير: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ دَعَا بِقَوْسٍ فَرَمَى بها الحصن، فأقبل السهم يهوي حَتَّى قَتَلَ ابْنَ أَبِي الْحَقِيقِ فِي فِرَاشِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ فِي قَوْلِهِ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى أَيْ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِرَمْيَتِكَ لَوْلَا الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ مِنْ نَصْرِكَ وَمَا أَلْقَى فِي صُدُورِ عَدُوِّكَ حَتَّى هَزَمَهُمْ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً أَيْ: لِيَعْرِفَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ فِي إِظْهَارِهِمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ مَعَ كَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ وَقِلَّةِ عَدَدِهِمْ، لِيَعْرِفُوا بذلك حقه، ويشركوا بذلك نعمته.
[[سورة الأنفال (٨) : آية ١٩]]
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩)
الِاسْتِفْتَاحُ: طَلَبُ النَّصْرِ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الْمُخَاطَبِينَ بِالْآيَةِ مَنْ هُمْ؟ فَقِيلَ: إِنَّهَا خِطَابٌ لِلْكُفَّارِ تَهَكُّمًا بِهِمْ، وَالْمَعْنَى: إِنْ تَسْتَنْصِرُوا اللَّهَ عَلَى مُحَمَّدٍ، فَقَدْ جَاءَكُمُ النَّصْرُ، وَقَدْ كَانُوا عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مَكَّةَ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَنْصُرَ أَحَقَّ الطَّائِفَتَيْنِ بِالنَّصْرِ فَتَهَكَّمَ اللَّهُ بِهِمْ، وَسَمَّى مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْهَلَاكِ نَصْرًا وَمَعْنَى بَقِيَّةِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَإِنْ تَنْتَهُوا عَمَّا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْعَدَاوَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ فَهُوَ أَيِ: الِانْتِهَاءُ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْعَدَاوَةِ نَعُدْ بِتَسْلِيطِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْكُمْ وَنَصْرِهِمْ كَمَا سَلَّطْنَاهُمْ وَنَصَرْنَاهُمْ فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ أَيْ: جَمَاعَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ أَيْ:
لَا تُغْنِي عَنْكُمْ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَلَوْ فِي حَالِ كَثْرَتِهَا، ثُمَّ قَالَ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ فَهُوَ الْمَنْصُورُ، وَمَنْ كان الله عليه فهو المخذول. وقرئ بِكَسْرِ إِنَّ وَفَتْحِهَا فَالْكَسْرُ: عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَالْفَتْحُ عَلَى تَقْدِيرِ: وَلِأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فَعَلَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْمَعْنَى: إِنْ تَسْتَنْصِرُوا اللَّهَ فَقَدْ جَاءَكُمُ النَّصْرُ فِي يَوْمِ بَدْرٍ، وَإِنْ تَنْتَهُوا عَنْ مَثَلِ مَا فَعَلْتُمُوهُ مِنْ أَخْذِ الْغَنَائِمِ، وَفِدَاءِ الْأَسْرَى قَبْلَ الْإِذْنِ لَكُمْ بِذَلِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَإِنْ تَعُودُوا إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ، نَعُدْ إِلَى تَوْبِيخِكُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ الْآيَةَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يَأْبَى هَذَا الْقَوْلَ مَعْنَى وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَيَأْبَاهُ أَيْضًا وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَتَوْجِيهُ ذَلِكَ لا يمكن إلا بتكليف وَتَعَسُّفٍ، وَقِيلَ: إِنِ الْخِطَابَ فِي إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَمَا بَعْدَهُ لِلْكَافِرِينَ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا مِنْ تَفْكِيكِ النَّظْمِ، وُعُودِ الضَّمَائِرِ الْجَارِيَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute