وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ مَنْ قَالَ: بِأَنَّ الْمُشْرِكَ نَجَسُ الذَّاتِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ وَالزَّيْدِيَّةِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَمِنْهُمْ أَهْلُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ بِنَجَسِ الذَّاتِ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَحَلَّ طَعَامَهُمْ، وَثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ وَقَوْلِهِ مَا يُفِيدُ عَدَمَ نَجَاسَةِ ذَوَاتِهِمْ، فَأَكَلَ فِي آنِيَتِهِمْ، وَشَرِبَ مِنْهَا، وَتَوَضَّأَ فِيهَا، وَأَنْزَلَهُمْ فِي مَسْجِدِهِ. قَوْلُهُ:
فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ، فَعَدَمُ قُرْبَانِهِمْ لِلْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مُتَفَرِّعٌ عَلَى نَجَاسَتِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ جَمِيعُ الْحَرَمِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ، فَيُمْنَعُونَ عِنْدَهُ مِنْ جَمِيعِ الْحَرَمِ، وَذَهَبَ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ نَفْسُهُ فَلَا يُمْنَعُ الْمُشْرِكُ مِنْ دُخُولِ سَائِرِ الْحَرَمِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي دُخُولِ الْمُشْرِكِ غَيْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنَ الْمَسَاجِدِ فَذَهَبَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَى مَنْعِ كُلِّ مُشْرِكٍ عَنْ كُلِّ مَسْجِدٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ خَاصَّةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ دُخُولِ غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا جُمُودٌ مِنْهُ عَلَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ تَنْبِيهٌ عَلَى الْعِلَّةِ بِالشِّرْكِ وَالنَّجَاسَةِ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ مَرْدُودٌ بِرَبْطِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِثُمَامَةَ بْنِ أَثَالٍ فِي مَسْجِدِهِ، وَإِنْزَالِ وَفْدِ ثَقِيفٍ فِيهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَزَادَ أَنَّهُ يَجُوزُ دُخُولُ الذِّمِّيِّ سَائِرَ الْمَسَاجِدِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَقَيَّدَهُ الشَّافِعِيُّ بِالْحَاجَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ لِلذِّمِّيِّ دُونَ الْمُشْرِكِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُمْ دُخُولُ الْحَرَمِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَسَائِرِ الْمَسَاجِدِ، وَنَهْيُ الْمُشْرِكِينَ عَنْ أَنْ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ هُوَ نَهْيٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَنْ أَنْ يُمَكِّنُوهُمْ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ: لَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا.
قَوْلُهُ: بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَنَةُ تِسْعٍ، وَهِيَ الَّتِي حَجَّ فيها أبو بكر على الموسم.
والثاني: أَنَّهُ سَنَةُ عَشْرٍ، قَالَهُ قَتَادَةُ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يُعْطِيهِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ، وَمِنَ الْعَجَبِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ سَنَةُ تِسْعٍ، وهو العام الذي وقع في الْأَذَانُ، وَلَوْ دَخْلَ غُلَامُ رَجُلٍ دَارَهُ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ مَوْلَاهُ:
لَا تَدْخُلْ هَذِهِ الدَّارَ بَعْدَ يَوْمِكَ، لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ الْيَوْمَ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ انْتَهَى. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الَّذِي يُعْطِيهِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ هُوَ خِلَافُ مَا زَعَمَهُ، فَإِنَّ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ: بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا إِلَى الْعَامِ الْمَذْكُورِ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ وَهُوَ عَامُ النِّدَاءِ، وَهَكَذَا فِي الْمِثَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُرَادُ: النَّهْيُ عَنْ دُخُولِهَا بَعْدَ يَوْمِ الدُّخُولِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْخِطَابُ، وَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ تَفْسِيرَ مَا بَعْدَ الْمُضَافِ إِلَى عَامِهِمْ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ عَامُ عَشْرٍ، وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْعَامِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِهَذَا، فَلَا شَكَّ وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ عَامُ تِسْعٍ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُ قَتَادَةَ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُشْرِكِينَ دُخُولُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ بِهَذَا الْقَيْدِ، أَعْنِي قَوْلَهُ: بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا قَائِلًا إِنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِوَقْتِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَهُمْ مَمْنُوعُونَ عَنِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَقَطْ لَا عَنْ مُطْلَقِ الدُّخُولِ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ ظَاهِرَ النَّهْيِ عَنِ الْقُرْبَانِ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ يُفِيدُ الْمَنْعَ مِنَ الْقُرْبَانِ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ الْكَائِنَةِ بَعْدَهُ، وَتَخْصِيصُ بَعْضِهَا بِالْجَوَازِ يَحْتَاجُ إِلَى مُخَصِّصٍ. قَوْلُهُ: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ الْعَيْلَةُ:
الْفَقْرُ، يُقَالُ: عَالَ الرَّجُلُ يَعِيلُ: إِذَا افْتَقَرَ، قَالَ الشَّاعِرِ:
وَمَا يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ ... وَمَا يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute