الضرار، أو متعلق بحارب، أَيْ: لِمَنْ وَقَعَ مِنْهُ الْحَرْبُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ مِنْ قَبْلِ بِنَاءِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ. قَوْلُهُ:
وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى أَيْ: مَا أَرَدْنَا إِلَّا الْخَصْلَةَ الْحُسْنَى، وَهِيَ الرِّفْقُ بِالْمُسْلِمِينَ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فِيمَا حَلَفُوا عَلَيْهِ، ثُمَّ نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ الضِّرَارِ، فَقَالَ: لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً أَيْ: فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْقِيَامِ فِيهِ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهِ. وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنِ الصَّلَاةِ بِالْقِيَامِ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَقُومُ اللَّيْلَ، أَيْ: يُصَلِّي، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ:
«مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِلَّةَ النَّهْيِ عَنِ الْقِيَامِ فِيهِ بِقَوْلِهِ: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ وَاللَّامُ فِي: لَمَسْجِدٌ لَامُ الْقَسَمِ، وَقِيلَ: لَامُ الِابْتِدَاءِ، وَفِي ذَلِكَ تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، وَتَأْسِيسُ الْبِنَاءِ: تَثْبِيتُهُ وَرَفْعُهُ. وَمَعْنَى تَأْسِيسِهِ عَلَى التَّقْوَى: تَأْسِيسُهُ عَلَى الْخِصَالِ الَّتِي تَتَّقِي بِهَا الْعُقُوبَةَ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءٍ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ مَسْجِدُ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ. وَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ لِمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا إِنْ شاء الله، ومِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ متعلق بأسس، أَيْ: أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ تَأْسِيسِهِ، قَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ: إِنَّ مِنْ هُنَا بِمَعْنَى مُنْذُ، أَيْ: مُنْذُ أَوَّلِ يَوْمٍ ابْتُدِئَ بِبِنَائِهِ، وَقَوْلُهُ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. وَالْمَعْنَى: لَوْ كَانَ الْقِيَامُ فِي غَيْرِهِ جَائِزًا لَكَانَ هَذَا أَوْلَى بِقِيَامِكَ فِيهِ لِلصَّلَاةِ وَلِذِكْرِ اللَّهِ، لِكَوْنِهِ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، وَلِكَوْنِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ أحقية قيامه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فِيهِ، أَيْ: كَمَا أَنَّ هَذَا الْمَسْجِدَ أَوْلَى مِنْ جِهَةِ الْمَحَلِّ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ جِهَةِ الْحَالِ فِيهِ، وَيَجُوزُ أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا، ويجوز أن تكون صفة أخرى لمسجد. وَمَعْنَى مَحَبَّتِهِمْ لِلتَّطَهُّرِ: أَنَّهُمْ يُؤْثِرُونَهُ وَيَحْرِصُونَ عَلَيْهِ عِنْدَ عُرُوضِ مُوجِبِهِ وَقِيلَ:
مَعْنَاهُ: يُحِبُّونَ التَّطَهُّرَ مِنَ الذُّنُوبِ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقِيلَ: يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا بِالْحُمَّى الْمُطَهِّرَةِ مِنَ الذُّنُوبِ فَحُمُّوا جَمِيعًا، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا. وَمَعْنَى مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُمُ: الرِّضَا عَنْهُمْ، وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِمْ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُحِبُّ بِمَحْبُوبِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ بَوْنًا بَعِيدًا، فَقَالَ: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ وَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ التَّقْرِيرِيِّ، وَالْبُنْيَانُ: مَصْدَرٌ كَالْعُمْرَانِ، وَأُرِيدَ بِهِ: الْمَبْنِيُّ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ أَسَّسَ بِنَاءَ دِينِهِ عَلَى قَاعِدَةٍ قَوِيَّةٍ مُحْكَمَةٍ، وَهِيَ تَقْوَى اللَّهِ وَرِضْوَانُهُ خَيْرٌ مِمَّنْ أَسَّسَ دِينَهُ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ، وَهُوَ الْبَاطِلُ وَالنِّفَاقُ، وَالْمَوْصُولُ: مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ: خَيْرٌ، وَقُرِئَ: أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلَى بِنَاءِ الْفِعْلِ لِلْفَاعِلِ، وَنَصْبِ بُنْيَانَهُ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَقُرِئَ: عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَقُرِئَ: أَسَاسُ بُنْيَانِهِ بِإِضَافَةِ أَسَاسُ إِلَى بُنْيَانِهِ وَقُرِئَ: أُسُّ بُنْيَانِهِ وَالْمُرَادُ: أُصُولُ الْبِنَاءِ. وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ قِرَاءَةً أُخْرَى، وَهِيَ آسَاسُ بُنْيَانِهِ عَلَى الْجَمْعِ، وَمِنْهُ:
أَصْبَحَ الْمُلْكُ ثَابِتَ الْآسَاسِ ... بِالْبَهَالِيلِ مِنْ بَنِي الْعَبَّاسِ
وَالشَّفَا: الشَّفِيرُ، وَالْجُرُفُ: مَا يَتَجَرَّفُ بِالسُّيُولِ، وَهِيَ الْجَوَانِبُ الَّتِي تَنْجَرِفُ بِالْمَاءِ، وَالِاجْتِرَافُ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute