هِجْرَانِ أَهْلِ الْمَعَاصِي تَأْدِيبًا لَهُمْ لِيَنْزَجِرُوا عَنِ الْمَعَاصِي. وَمَعْنَى ضِيقِ أَنْفُسِهِمْ عَلَيْهِمْ: أَنَّهَا ضَاقَتْ صُدُورُهُمْ بِمَا نَالَهُمْ مِنَ الْوَحْشَةِ، وَبِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْجَفْوَةِ، وَعَبَّرَ بِالظَّنِّ فِي قَوْلِهِ: وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ عَنِ الْعِلْمِ، أَيْ: عَلِمُوا أَنْ لَا مَلْجَأَ يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ قَطُّ إِلَّا إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ. قَوْلُهُ:
ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا أَيْ: رَجَعَ عَلَيْهِمْ بِالْقَبُولِ وَالرَّحْمَةِ، وَأَنْزَلَ فِي الْقُرْآنِ التَّوْبَةَ عَلَيْهِمْ لِيَسْتَقِيمُوا أَوْ وَفَّقَهُمْ لِلتَّوْبَةِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ إِنْ فَرَطَتْ مِنْهُمْ خَطِيئَةٌ لِيَتُوبُوا عَنْهَا وَيَرْجِعُوا إِلَى اللَّهِ فِيهَا، وَيَنْدَمُوا عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ أَيِ: الْكَثِيرُ الْقَبُولِ لِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ، الرَّحِيمُ أَيِ: الْكَثِيرُ الرَّحْمَةِ لِمَنْ طَلَبَهَا مِنْ عِبَادِهِ. قَوْلُهُ: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ هَذَا الْأَمْرُ بِالْكَوْنِ مَعَ الصَّادِقِينَ بَعْدَ قِصَّةِ الثَّلَاثَةِ فِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ حَصَلَ لَهُمْ بِالصِّدْقِ مَا حَصَلَ مِنْ تَوْبَةِ اللَّهِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْأَمْرُ لِلْعِبَادِ عَلَى الْعُمُومِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ قَالَ:
نَزَلَتْ حِينَ أَخَذُوا الْفِدَاءَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْأُسَارَى. قَالَ: لَمْ يَكُنْ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوهُ حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ، وَلَكِنْ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَ قَوْمًا بِذَنْبٍ أَذْنَبُوهُ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ قَالَ: حَتَّى يَنْهَاهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: بَيَانُ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً، وَفِي بَيَانِهِ طَاعَتَهُ وَمَعْصِيَتَهُ عَامَّةً مَا فَعَلُوا أَوْ تَرَكُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالضِّيَاءُ فِي الْمُخْتَارَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: حَدِّثْنَا مِنْ شَأْنِ سَاعَةِ الْعُسْرَةِ، فَقَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى تَبُوكَ فِي قَيْظٍ شَدِيدٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَأَصَابَنَا فِيهِ عَطَشٌ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّ رِقَابَنَا سَتَنْقَطِعُ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ فَيَشْرَبُهُ وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ عَلَى كَبِدِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ اللَّهَ قَدْ عَوَّدَكَ فِي الدُّعَاءِ خَيْرًا فَادْعُ لَنَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى قالت السماء فأهطلت ثم سكبت، فملؤوا مَا مَعَهُمْ، ثُمَّ ذَهَبْنَا نَنْظُرُ فَلَمْ نَجِدْهَا جَاوَزَتِ الْعَسْكَرَ. وَقَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ بَيْنَ الرُّوَاةِ أَنَّ سَاعَةَ الْعُسْرَةِ هِيَ غَزْوَةُ تَبُوكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ مَنْدَهْ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ جَابِرِ ابن عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا قَالَ: كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَكُلُّهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَنْدَهْ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطُّ إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ تَخَلَّفْتُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَلَمْ يُعَاتِبْ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْهَا، إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَافَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ مِنْهَا فِي النَّاسِ وَأَشْهَرَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْقِصَّةَ الطَّوِيلَةَ الْمَشْهُورَةَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ، وَهِيَ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ فَلَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا قَالَ: يَعْنِي خُلِّفُوا عَنِ التَّوْبَةِ لَمْ يُتَبْ عَلَيْهِمْ حِينَ تَابَ اللَّهُ عَلَى أَبِي لُبَابَةَ وَأَصْحَابِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute