للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَالْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ قَوْلُهُ: قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ؟ مُسْتَأْنَفًا، قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ فِي: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ للإنكار، وأم مُنْقَطِعَةً بِمَعْنَى: بَلْ أَتَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ، وَإِظْهَارُ الِاسْمِ الشَّرِيفِ وَتَقْدِيمُهُ عَلَى الْفِعْلِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ الِافْتِرَاءِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ مَا يَصُكُّ مَسَامِعَ الْمُتَصَدِّرِينَ لِلْإِفْتَاءِ لِعِبَادِ اللَّهِ فِي شَرِيعَتِهِ، بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْجَوَازِ وَعَدَمِهِ، مَعَ كَوْنِهِمْ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ حُجَجَ اللَّهِ، وَلَا يُفْهَمُونَهَا، وَلَا يَدْرُونَ مَا هِيَ، وَمَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ الْحِكَايَةُ لِقَوْلِ قَائِلٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَدْ قَلَّدُوهُ فِي دِينِهِمْ، وَجَعَلُوهُ شَارِعًا مُسْتَقِلًّا، مَا عَمِلَ بِهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ الْمَعْمُولُ بِهِ عِنْدَهُمْ، وَمَا لَمْ يَبْلُغْهُ أَوْ بَلَغَهُ وَلَمْ يَفْهَمْهُ حَقَّ فَهْمِهِ أَوْ فَهِمَهُ وَأَخْطَأَ الصَّوَابَ فِي اجْتِهَادِهِ وَتَرْجِيحِهِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَنْسُوخِ عِنْدَهُمُ الْمَرْفُوعِ حُكْمُهُ عَنِ الْعِبَادِ، مَعَ كَوْنِ مَنْ قَلَّدُوهُ مُتَعَبَّدًا بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ كَمَا هُمْ مُتَعَبَّدُونَ بِهَا وَمَحْكُومًا عَلَيْهِ بِأَحْكَامِهَا كَمَا هُوَ مَحْكُومٌ عَلَيْهِمْ بِهَا، وَقَدِ اجْتَهَدَ رَأْيَهُ وَأَدَّى مَا عَلَيْهِ، وَفَازَ بِأَجْرَيْنِ مَعَ الْإِصَابَةِ وَأَجْرٍ مَعَ الْخَطَأِ إِنَّمَا الشَّأْنُ فِي جَعْلِهِمْ لِرَأْيِهِ الَّذِي أَخْطَأَ فِيهِ شَرِيعَةً مُسْتَقِلَّةً، وَدَلِيلًا مَعْمُولًا بِهِ، وَقَدْ أَخْطَئُوا فِي هَذَا خَطَأً بَيِّنًا، وَغَلَطُوا غَلَطًا فَاحِشًا، فَإِنَّ التَّرْخِيصَ لِلْمُجْتَهِدِ فِي اجْتِهَادِ رَأْيِهِ يَخُصُّهُ وَحْدَهُ، وَلَا قَائِلَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ الْمُعْتَدِّ بِأَقْوَالِهِمْ أَنَّهُ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ تَقْلِيدًا لَهُ وَاقْتِدَاءً بِهِ. وَمَا جَاءَ بِهِ الْمُقَلِّدَةُ في تقوّل هَذَا الْبَاطِلِ، فَهُوَ مِنَ الْجَهْلِ الْعَاطِلِ، اللَّهُمَّ كما رزقتنا من العلم ما تميز بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَارْزُقْنَا مِنَ الْإِنْصَافِ مَا نَظْفَرُ عِنْدَهُ بِمَا هُوَ الْحَقُّ عِنْدَكَ يَا وَاهِبَ الْخَيْرِ. ثُمَّ قَالَ: وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ ظَنُّهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ؟

وَمَا يُصْنَعُ بِهِمْ فِيهِ؟ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ الْمُتَضَمِّنَةُ لِتَعْظِيمِ الْوَعِيدِ لَهُمْ غَيْرُ دَاخِلَةٍ تَحْتَ الْقَوْلِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ، بَلْ مُبْتَدَأَةٌ مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ مَا سَيَحِلُّ بِهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، ويَوْمَ الْقِيامَةِ:

مَنْصُوبٌ بِالظَّنِّ، وَذِكْرُ الْكَذِبِ بَعْدَ الِافْتِرَاءِ، مَعَ أَنَّ الِافْتِرَاءَ لَا يَكُونُ إِلَّا كَذِبًا لزيادة التأكيد. وقرأ عيسى ابن عُمَرَ: وَما ظَنُّ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ يَتَفَضَّلُ عَلَيْهِمْ بِأَنْوَاعِ النِّعَمِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى نِعَمِهِ الْوَاصِلَةِ إِلَيْهِمْ مِنْهُ سُبْحَانَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَطَرْفَةٍ مِنَ الطَّرَفَاتِ. قَوْلُهُ: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ الْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا نَافِيَةٌ، وَالشَّأْنُ:

الْأَمْرُ، بِمَعْنَى: الْقَصْدِ، وأصله الهمز، وجمعه شؤون. قَالَ الْأَخْفَشُ: تَقُولُ الْعَرَبُ: مَا شَأَنْتُ شَأْنَهُ: أي ما عملت عمله وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: الضَّمِيرُ فِي مِنْهُ يَعُودُ عَلَى الشَّأْنِ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: تِلَاوَةً كَائِنَةً مِنْهُ، إذ التلاوة للقرآن من أعظم شؤونه صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَالْمَعْنَى:

أَنَّهُ يَتْلُو- مِنْ أَجْلِ الشَّأْنِ الَّذِي حَدَثَ- الْقُرْآنُ فَيَعْلَمُ كَيْفَ حُكْمُهُ، أَوْ يتلو القرآن الذي فِي ذَلِكَ الشَّأْنِ.

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ فِي مِنْهُ إِلَى الْكِتَابِ،: أَيْ: مَا يَكُونُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مِنْ قُرْآنٍ، وأعاده تفخيما له كقوله: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ «١» ، وَالْخِطَابُ فِي: وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ لِرَسُولِ اللَّهِ وَلِلْأُمَّةِ وَقِيلَ:

الْخِطَابُ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ لِلْمُخَاطَبِينَ، أَيْ: شُهُودًا عَلَيْكُمْ بِعَمَلِهِ مِنْكُمْ، وَالضَّمِيرُ فِي: فِيهِ، مِنْ قَوْلِهِ: تُفِيضُونَ فِيهِ عَائِدٌ عَلَى الْعَمَلِ، يُقَالُ: أَفَاضَ فُلَانٌ فِي الْحَدِيثِ وَالْعَمَلِ: إِذَا انْدَفَعَ فِيهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الضَّمِيرُ فِي فِيهِ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ وَالْمَعْنَى: إذ تشيعون


(١) . طه: ١٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>