لَعَمْرُكَ مَا أَمْرِي عَلَيَّ بِغُمَّةٍ ... نَهَارِي وَلَا لَيْلِي عَلَيَّ بِسَرْمَدِ
هَكَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْهَيْثَمُ: مَعْنَاهُ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ مُبْهَمًا. وَقِيلَ: إِنَّ الْغُمَّةَ: ضِيقُ الْأَمْرِ، كَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ. وَالْمَعْنَى: لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ بِمُصَاحَبَتِي وَالْمُجَامَلَةِ لِي ضِيقًا شَدِيدًا، بَلِ ادْفَعُوا هَذَا الضِّيقَ وَالشِّدَّةَ بِمَا شِئْتُمْ وَقَدَرْتُمْ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ الثَّانِي هُوَ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ، وَعَلَى الثَّالِثِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ غَيْرَهُ. قَوْلُهُ: ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ أَيْ: ذَلِكَ الْأَمْرَ الَّذِي تُرِيدُونَهُ بِي.
وَأَصْلُ اقْضُوا مِنَ الْقَضَاءِ، وَهُوَ الْإِحْكَامُ. وَالْمَعْنَى: أَحْكِمُوا ذَلِكَ الْأَمْرَ. قَالَ الْأَخْفَشُ وَالْكِسَائِيُّ: هو مثل وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ «١» أَيْ: أَنْهَيْنَاهُ إِلَيْهِ وَأَبْلَغْنَاهُ إِيَّاهُ، ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ: أَيْ لَا تُمْهِلُونِ، بَلْ عَجِّلُوا أَمْرَكُمْ وَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: ثُمَّ امْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُؤَخِّرُونَ. قَالَ النَّحَّاسُ: هَذَا قَوْلٌ صَحِيحٌ فِي اللُّغَةِ، وَمِنْهُ قَضَى الْمَيِّتُ: مَضَى. وَحَكَى الْفَرَّاءُ عَنْ بَعْضِ الْقُرَّاءِ أَنَّهُ قَرَأَ ثُمَّ أَفْضُوا بِالْفَاءِ وَقَطْعِ الْهَمْزَةِ، أَيْ:
تَوَجَّهُوا، وَفِي هَذَا الْكَلَامِ مِنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا يَدُلُّ عَلَى وُثُوقِهِ بِنَصْرِ رَبِّهِ، وَعَدَمِ مُبَالَاتِهِ بِمَا يَتَوَعَّدُهُ بِهِ قَوْمُهُ.
ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ كُلَّ مَا أَتَى بِهِ إِلَيْهِمْ مِنَ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ وَتَبْلِيغِ الشَّرِيعَةِ عَنِ اللَّهِ لَيْسَ هُوَ لِطَمَعٍ دُنْيَوِيٍّ، وَلَا لِغَرَضٍ خَسِيسٍ، فَقَالَ: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ أَيْ: إِنْ أَعْرَضْتُمْ عَنِ الْعَمَلِ بِنُصْحِي لَكُمْ وَتَذْكِيرِي إِيَّاكُمْ، فَمَا سَأَلْتُكُمْ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ مِنْ أَجْرٍ تُؤَدُّونَهُ إِلَيَّ حَتَّى تَتَّهِمُونِي فِيمَا جِئْتُ بِهِ، وَالْفَاءُ فِي فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، وَالْفَاءُ فِي فَما سَأَلْتُكُمْ جَزَائِيَّةٌ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ أَيْ: مَا ثَوَابِي فِي النُّصْحِ وَالتَّذْكِيرِ إِلَّا عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، فَهُوَ يُثِيبُنِي آمَنْتُمْ أَوْ تَوَلَّيْتُمْ. قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَبُو عُمَرَ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ بِتَحْرِيكِ الْيَاءِ مِنْ أَجْرِيَ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالسُّكُونِ. وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْمُنْقَادِينَ لِحُكْمِ اللَّهِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ أَعْمَالَهُمْ خَالِصَةً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ لَا يَأْخُذُونَ عَلَيْهَا أَجْرًا فِي عَاجِلٍ. قَوْلُهُ: فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ أَيِ: اسْتَمَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِهِ وَأَصَرُّوا عَلَى ذَلِكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ أَحْدَثُوا تَكْذِيبَهُ بعد أن لم يكن، والمراد مَعَهُ مَنْ قَدْ أَجَابَهُ وَصَارَ عَلَى دِينِهِ، وَالْخَلَائِفُ جَمْعُ خَلِيفَةٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَهُمْ خُلَفَاءَ يَسْكُنُونَ الْأَرْضَ الَّتِي كَانَتْ لِلْمُهْلَكِينَ بِالْغَرَقِ، وَيَخْلُفُونَهُمْ فِيهَا وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا مِنَ الْكُفَّارِ الْمُعَانِدِينَ لِنُوحٍ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَغْرَقَهُمُ اللَّهُ بِالطُّوفَانِ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ فِيهِ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَتَهْوِيلٌ عَلَيْهِمْ ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ أَيْ: مِنْ بَعْدِ نُوحٍ رُسُلًا كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أَيْ: بِالْمُعْجِزَاتِ وَبِمَا أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ لِقَوْمِ كُلِّ نَبِيٍّ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا أَيْ: فَمَا أَحْدَثُوا الْإِيمَانَ بَلِ اسْتَمَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ وَأَصَرُّوا عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ مَا صَحَّ وَلَا اسْتَقَامَ لِقَوْمٍ مِنْ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ رُسُلَهُ أَنْ يُؤْمِنُوا فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ أَيْ: مِنْ قَبْلِ تَكْذِيبِهِمُ الْوَاقِعِ مِنْهُمْ عِنْدَ مَجِيءِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ. وَالْمَعْنَى:
أَنَّ كُلَّ قَوْمٍ مِنَ الْعَالَمِ لَمْ يُؤْمِنُوا عِنْدَ أَنْ أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمُ الرَّسُولَ الْمَبْعُوثَ إِلَيْهِمْ عَلَى الْخُصُوصِ بِمَا كَانُوا مُكَذِّبِينَ بِهِ مِنْ قَبْلِ مَجِيئِهِ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا غَيْرَ مُؤْمِنِينَ بَلْ مُكَذِّبِينَ بِالدِّينِ، وَلَوْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ لَمْ يَبْعَثْ إِلَيْهِمْ رَسُولًا، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا وَفِي بِما كَذَّبُوا رَاجِعٌ إِلَى الْقَوْمِ المذكورين في
(١) . الحجر: ٦٦.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute