الْإِشَارَةُ إِلَى الْمُرِيدِينَ الْمَذْكُورِينَ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ هَذَا بِأَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا الْآخِرَةَ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الْمُعْتَدِّ بِهَا الْمُوجِبَةِ لِلْجَزَاءِ الْحَسَنِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، أَوْ تَكُونُ الْآيَةُ خَاصَّةً بِالْكُفَّارِ كَمَا تَقَدَّمَ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا أَيْ: ظَهَرَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ حُبُوطُ مَا صَنَعُوهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي كَانَتْ صُورَتُهَا صُورَةَ الطَّاعَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلْجَزَاءِ الْأُخْرَوِيِّ، لَوْلَا أَنَّهُمْ أَفْسَدُوهَا بِفَسَادِ مَقَاصِدِهِمْ، وَعَدَمِ الْخُلُوصِ، وَإِرَادَةِ مَا عِنْدَ اللَّهِ فِي دَارِ الْجَزَاءِ، بَلْ قَصَرُوا ذَلِكَ عَلَى الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا ثُمَّ حَكَمَ سُبْحَانَهُ بِبُطْلَانِ عَمَلِهِمْ فَقَالَ: وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ: أَنَّهُ كَانَ عَمَلُهُمْ فِي نَفْسِهِ بَاطِلًا غَيْرَ مُعْتَدٍّ بِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُعْمَلْ لِوَجْهٍ صَحِيحٍ يُوجِبُ الْجَزَاءَ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّحِيحِ. قَوْلُهُ: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ بَيْنَ مَنْ كَانَ طَالِبًا لِلدُّنْيَا فَقَطْ، وَمَنْ كَانَ طَالِبًا لِلْآخِرَةِ، تفاوتا عظيما، وتباينا بعيدا المعنى: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ فِي اتباع النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ كَغَيْرِهِ مِمَّنْ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ:
أَفَمَنْ كَانَ مَعَهُ بَيَانٌ مِنَ اللَّهِ وَمُعْجِزَةٌ كَالْقُرْآنِ وَمَعَهُ شَاهِدٌ كَجِبْرِيلَ، وَقَدْ بَشَّرَتْ بِهِ الْكُتُبُ السَّالِفَةُ، كَمَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا. وَمَعْنَى الْبَيِّنَةِ: الْبُرْهَانُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْحَقِّ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ رَاجِعٌ إِلَى الْبَيِّنَةِ بِاعْتِبَارِ تَأْوِيلِهَا بِالْبُرْهَانِ، وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُ: رَاجِعٌ إِلَى الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أَوْ رَاجَعٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَالْمَعْنَى: وَيَتْلُو الْبُرْهَانَ الَّذِي هُوَ الْبَيِّنَةُ شَاهِدٌ يَشْهَدُ بِصِحَّتِهِ مِنَ الْقُرْآنِ، أَوْ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. وَالشَّاهِدُ: هُوَ الْإِعْجَازُ الْكَائِنُ فِي الْقُرْآنِ، أَوِ الْمُعْجِزَاتُ الَّتِي ظَهَرَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الشَّوَاهِدِ التَّابِعَةِ لِلْقُرْآنِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ:
الْإِنْجِيلُ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ فَهُوَ يَتْلُو الْقُرْآنَ فِي التَّصْدِيقِ، وَالْهَاءُ فِي مِنْهُ: لِلَّهِ عَزَّ وجلّ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ ربه: هم مؤمنوا أَهْلِ الْكِتَابِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَضْرَابِهِ. قَوْلُهُ: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى مَعْطُوفٌ عَلَى شَاهِدٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وَيَتْلُو الشَّاهِدَ شَاهِدٌ آخَرُ مِنْ قَبْلِهِ هُوَ كِتَابُ مُوسَى، فَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُتَقَدِّمًا فِي النُّزُولِ فَهُوَ يَتْلُو الشَّاهِدَ فِي الشَّهَادَةِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الشَّاهِدَ عَلَى كِتَابِ مُوسَى مَعَ كَوْنِهِ مُتَأَخِّرًا فِي الْوُجُودِ لِكَوْنِهِ وَصْفًا لَازِمًا غَيْرَ مُفَارِقٍ، فَكَانَ أَغْرَقَ فِي الْوَصْفِيَّةِ من كتاب موسى. ومعنى شهادة مُوسَى، وَهُوَ التَّوْرَاةُ أَنَّهُ بَشَّرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَ بِأَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْمَعْنَى وَيَتْلُوهُ مِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى لأن النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ مَوْصُوفٌ فِي كِتَابِ مُوسَى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَرَأَ: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى بِالنَّصْبِ. وَحَكَاهُ الَمَهَدَوِيُّ عَنِ الْكَلْبِيِّ فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى الْهَاءِ فِي يَتْلُوهُ.
وَالْمَعْنَى: وَيَتْلُو كِتَابَ مُوسَى جِبْرِيلُ، وَانْتِصَابُ إِمَامًا وَرَحْمَةً عَلَى الْحَالِ. وَالْإِمَامُ: هُوَ الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ فِي الدِّينِ وَيُقْتَدَى بِهِ، وَالرَّحْمَةُ: النِّعْمَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى مَنْ أَنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ بِاعْتِبَارِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُوَافِقَةِ لِحُكْمِ الْقُرْآنِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ أُولئِكَ إِلَى الْمُتَّصِفِينَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ الْفَاضِلَةِ، وَهُوَ الْكَوْنُ عَلَى الْبَيِّنَةِ مِنَ اللَّهِ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ يُؤْمِنُونَ بِهِ أَيْ: يُصَدِّقُونَ بالنبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَوْ بِالْقُرْآنِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ أَيْ: بِالنَّبِيِّ أَوْ بِالْقُرْآنِ. وَالْأَحْزَابُ: الْمُتَحَزِّبُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ، أَوِ: الْمُتَحَزِّبُونَ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ أَيْ: هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute