بِهِ قَوْمُهُ عَلَيْهِ وَهَذَا الْجَوَابُ يَتَضَمَّنُ الطَّعْنَ منهم في نبوّته من ثلاث جهات فقال: فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ وَالْمَلَأُ: الْأَشْرَافُ، كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرُ مَرَّةٍ، وَوَصْفُهُمْ بِالْكُفْرِ: ذَمًّا لَهُمْ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَعْضَ أَشْرَافِ قَوْمِهِ لَمْ يَكُونُوا كَفَرَةً مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا هَذِهِ الْجِهَةُ الْأُولَى مِنْ جِهَاتِ طَعْنِهِمْ فِي نُبُوَّتِهِ، أَيْ: نَحْنُ وَأَنْتَ مُشْتَرِكُونَ فِي الْبَشَرِيَّةِ، فَلَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيْنَا مَزِيَّةٌ تَسْتَحِقُّ بِهَا النُّبُوَّةَ دُونَنَا، وَالْجِهَةُ الثَّانِيَةُ: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا وَلَمْ يَتَّبِعْكَ أَحَدٌ مِنَ الْأَشْرَافِ، فَلَيْسَ لَكَ مَزِيَّةٌ عَلَيْنَا بِاتِّبَاعِ هَؤُلَاءِ الْأَرَاذِلِ لَكَ، وَالْأَرَاذِلُ: جَمْعُ أَرْذَلَ، وَأَرْذَلُ: جَمْعُ رَذْلٍ، مِثْلُ: أَكَالِبَ وَأَكْلُبٍ وَكَلْبٍ وَقِيلَ: الْأَرَاذِلُ جَمْعُ الْأَرْذَلِ كَالْأَسَاوِدِ جَمْعُ أَسْوَدٍ، وَهُمُ السَّفَلَةُ. قَالَ النَّحَّاسُ: الْأَرَاذِلُ: الْفُقَرَاءُ وَالَّذِينَ لَا حَسَبَ لَهُمْ، وَالْحَسَبُ الصِّنَاعَاتُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: نَسَبُوهُمْ إِلَى الْحِيَاكَةِ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الصِّنَاعَاتِ لَا أَثَرَ لَهَا فِي الدِّيَانَةِ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: السَّفَلَةُ هُوَ الَّذِي يُصْلِحُ الدُّنْيَا بِدِينِهِ، قِيلَ لَهُ: فَمَنْ سَفَلَةُ السَّفَلَةِ؟ قَالَ: الَّذِي يُصْلِحُ دُنْيَا غَيْرِهِ بِفَسَادِ دِينِهِ. وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ السَّفَلَةَ هُوَ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الْحِرَفِ الدَّنِيَّةِ. وَالرُّؤْيَةُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِنْ كَانَتِ الْقَلْبِيَّةَ، فبشرا فِي الْأَوَّلِ: وَاتَّبَعَكَ فِي الثَّانِي هُمَا الْمَفْعُولُ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَتِ الْبَصَرِيَّةَ: فَهُمَا مُنْتَصِبَانِ عَلَى الْحَالِ، وَانْتِصَابُ بَادِيَ الرَّأْيِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَالْعَامِلُ فِيهِ اتَّبَعَكَ. وَالْمَعْنَى: فِي ظَاهِرِ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّقٍ، يُقَالُ بَدَا يَبْدُو: إِذَا ظَهَرَ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مَعْنَاهُ فِيمَا يَبْدُو لَنَا مِنَ الرَّأْيِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: مِنْ جِهَاتِ قَدْحِهِمْ فِي نُبُوَّتِهِ: وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ خَاطَبُوهُ فِي الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مُنْفَرِدًا وَفِي هَذَا الْوَجْهِ خَاطَبُوهُ مَعَ مُتَّبِعِيهِ، أَيْ: مَا نَرَى لك ولمن اتبعك من الأرذال علينا من فضل تتميزون به وتستحقون ما تدّعونه، ثم أضربوا على الثَّلَاثَةِ الْمَطَاعِنِ، وَانْتَقَلُوا إِلَى ظَنِّهِمُ الْمُجَرَّدِ عَنِ الْبُرْهَانِ الَّذِي لَا مُسْتَنَدَ لَهُ إِلَّا مُجَرَّدُ الْعَصَبِيَّةِ وَالْحَسَدِ، وَاسْتِبْقَاءِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الرِّيَاسَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَقَالُوا: بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ فِيمَا تَدَّعُونَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا خِطَابًا لِلْأَرَاذِلِ وَحْدَهُمْ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِأَنَّ الْكَلَامَ مَعَ نُوحٍ لَا مَعَهُمْ إِلَّا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا أَجَابَ بِهِ نُوحٌ عَلَيْهِمْ، فقال: قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أَيْ: أَخْبِرُونِي إِنْ كُنْتُ عَلَى بُرْهَانٍ مِنْ رَبِّي فِي النُّبُوَّةِ يَدُلُّ على صحتها يوجب عَلَيْكُمْ قَبُولَهَا مَعَ كَوْنِ مَا جَعَلْتُمُوهُ قَادِحًا لَيْسَ بِقَادِحٍ فِي الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي صِفَةِ الْبَشَرِيَّةِ لَا تَمْنَعُ الْمُفَارَقَةَ فِي صِفَةِ النُّبُوَّةِ، وَاتِّبَاعُ الْأَرَاذِلِ كَمَا تَزْعُمُونَ لَيْسَ مِمَّا يَمْنَعُ مِنَ النُّبُوَّةِ، فَإِنَّهُمْ مِثْلُكُمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ وَالْعَقْلِ وَالْفَهْمِ، فَاتِّبَاعُهُمْ لِي حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ لَا لَكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِالْبَيِّنَةِ: الْمُعْجِزَةَ وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ هِيَ: النُّبُوَّةُ، وَقِيلَ: الرَّحْمَةُ: الْمُعْجِزَةُ، وَالْبَيِّنَةُ: النُّبُوَّةُ.
قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرَّحْمَةُ هِيَ الْبَيِّنَةُ نَفْسُهَا، وَالْأَوْلَى تَفْسِيرُ الرَّحْمَةِ بِغَيْرِ مَا فُسِّرَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ، وَالْإِفْرَادُ فِي فَعُمِّيَتْ عَلَى إِرَادَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، أَوْ عَلَى إِرَادَةِ الْبَيِّنَةِ، لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَظْهَرُ لِمَنْ تَفَكَّرَ وَتَخْفَى عَلَى مَنْ لَمْ يَتَفَكَّرْ، وَمَعْنَى عَمِيَتْ: خَفِيَتْ وَقِيلَ: الرَّحْمَةُ: هِيَ عَلَى الْخَلْقِ، وَقِيلَ: هِيَ الْهِدَايَةُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْبُرْهَانِ، وَقِيلَ: الْإِيمَانُ، يُقَالُ عَمِيتُ عَنْ كَذَا، وَعَمِيَ عَلَيَّ كَذَا: إِذَا لَمْ أَفْهَمْهُ. قِيلَ: وَهُوَ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ أَوِ الرَّحْمَةَ لَا تَعْمَى، وَإِنَّمَا يُعْمَى عَنْهَا فَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: أَدْخَلَتْ الْقَلَنْسُوَةُ رَأْسِي. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ فَعُمِّيَتْ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، أَيْ: فَعَمَّاهَا اللَّهُ عَلَيْكُمْ، وَفِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute