للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ «١» وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:

وَكُلُّ ضَرْبٍ مِنَ الدِّيبَاجِ يلبسه ... أبو قدامة محبوّ بِذَاكَ مَعَا

أَرَادَ كُلَّ صِنْفٍ مِنَ الدِّيبَاجِ وَأَهْلَكَ عَطْفٌ عَلَى زَوْجَيْنِ، أَوْ عَلَى اثْنَيْنِ عَلَى قِرَاءَةِ حَفْصٍ، وَعَلَى مَحَلِّ كُلٍّ زَوْجَيْنِ، فَإِنَّهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِاحْمِلْ، أَوْ عَلَى اثْنَيْنِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَالْمُرَادُ: امْرَأَتُهُ وَبَنُوهُ وَنِسَاؤُهُمْ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ أَيْ مَنْ تَقَدَّمَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مِنَ الْمُغْرَقِينَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ عَلَى الِاخْتِلَافِ السَّابِقِ فِيهِمْ، فَمَنْ جَعَلَهُمْ جَمِيعَ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِهِ وَغَيْرِهِمْ كَانَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ جُمْلَةِ احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ وَمَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِهِمْ: وَلَدُهُ كَنْعَانُ وَامْرَأَتُهُ وَاعِلَةُ أُمُّ كَنْعَانَ، جَعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ أَهْلَكَ، وَيَكُونُ مُتَّصِلًا إِنْ أُرِيدَ بِالْأَهْلِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ مِنْهُمْ، وَمُنْقَطِعًا إِنْ أُرِيدَ بِالْأَهْلِ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ فَقَطْ. قَوْلُهُ: وَمَنْ آمَنَ مَعْطُوفٌ عَلَى أَهْلَكَ، أَيْ:

وَاحْمِلْ فِي السَّفِينَةِ مَنْ آمَنَ مِنْ قَوْمِكَ، وَأَفْرَدَ الْأَهْلَ مِنْهُمْ لِمَزِيدِ الْعِنَايَةِ بِهِمْ، أَوْ لِلِاسْتِثْنَاءِ مِنْهُمْ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ.

ثُمَّ وَصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قِلَّةَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ نُوحٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ كَفَرَ بِهِ فَقَالَ: وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ قِيلَ:

هُمْ ثمانون إنسانا منهم: ثلاثة من بنيه، وهم سَامٌ، وَحَامٌ، وَيَافِثُ، وَزَوْجَاتُهُمْ، وَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ السَّفِينَةِ بَنَوْا قَرْيَةً يُقَالُ لَهَا: قَرْيَةُ الثَّمَانِينَ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ بِنَاحِيَةِ الْمَوْصِلِ وَقِيلَ: كَانُوا عَشَرَةً، وَقِيلَ: سَبْعَةً، وَقِيلَ:

كَانُوا اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها الْقَائِلُ نُوحٌ، وَقِيلَ: اللَّهُ سُبْحَانَهُ.

وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، لِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَالرُّكُوبُ: الْعُلُوُّ عَلَى ظَهْرِ الشَّيْءِ حَقِيقَةً، نَحْوَ رَكِبَ الدَّابَّةَ، أَوْ مَجَازًا، نَحْوَ رَكِبَهُ الدَّيْنُ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، أَيِ: ارْكَبُوا الْمَاءَ فِي السَّفِينَةِ فَلَا يَرِدُ: أَنَّ رَكِبَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَقِيلَ: إِنَّ الْفَائِدَةَ فِي زِيَادَةِ فِي أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَكُونُوا فِي جَوْفِ السَّفِينَةِ لَا عَلَى ظَهْرِهَا وَقِيلَ: إِنَّهَا زِيدَتْ لِرِعَايَةِ جَانِبِ الْمَحَلِّيَّةِ فِي السَّفِينَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ «٢» ، وقوله: حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ «٣» قِيلَ: وَلَعَلَّ نُوحًا قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ بَعْدَ إِدْخَالِ مَا أُمِرَ بِحَمْلِهِ مِنَ الْأَزْوَاجِ، كَأَنَّهُ قِيلَ:

فَحَمَلَ الْأَزْوَاجَ وَأَدْخَلَهَا فِي الْفُلْكِ وَقَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ أَمَرَ بِالرُّكُوبِ كُلَّ مَنْ أُمِرَ بِحَمْلِهِ مِنَ الْأَزْوَاجِ وَالْأَهْلِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَفْهَمَ خِطَابَهُ مَنْ لَا يَعْقِلُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، أَوْ يَكُونَ هَذَا عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ. قَوْلُهُ: بِسْمِ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ باركبوا، أَوْ حَالٌ مِنْ فَاعِلِهِ، أَيْ: مُسَمِّينَ اللَّهَ، أَوْ قَائِلِينَ: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها قَرَأَ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ: بِضَمِّ الْمِيمِ فِيهِمَا إِلَّا مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُمَا اسْمَا زَمَانٍ، وَهُمَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ: وَقْتَ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مَصْدَرَيْنِ، أَيْ: وَقْتَ إِجْرَائِهَا وَإِرْسَائِهَا. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ: مَجْراها بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَمُرْسَاهَا بِضَمِّهَا، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: بِفَتْحِهَا فِيهِمَا. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ جُنْدُبٍ، وَعَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ، وَأَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ: مُجْرِيهَا وَمُرْسِيهَا عَلَى أَنَّهُمَا وَصْفَانِ لِلَّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا فِي مَوْضِعِ رفع بإضمار مبتدأ: أي هو مجراها وَمُرْسِيهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ لِلذُّنُوبِ رَحِيمٌ بِعِبَادِهِ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ إِنْجَاءُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ تَفَضُّلًا مِنْهُ لِبَقَاءِ هَذَا الْجِنْسِ الْحَيَوَانِيِّ، وَعَدَمِ اسْتِئْصَالِهِ بِالْغَرَقِ. قَوْلُهُ: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ


(١) . الحجر: ٥.
(٢) . العنكبوت: ٦٥.
(٣) . الكهف: ٧١.

<<  <  ج: ص:  >  >>