الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ: التَّوْرَاةُ، وَالسُّلْطَانُ الْمُبِينُ: الْمُعْجِزَاتُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ: هِيَ التِّسْعُ الْمَذْكُورَةُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَالسُّلْطَانُ الْمُبِينُ: الْعَصَا، وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مِنَ التِّسْعِ لَكِنَّهَا لَمَّا كَانَتْ أَبْهَرَهَا أُفْرِدَتْ بِالذِّكْرِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ: مَا يُفِيدُ الظَّنَّ، وَالسُّلْطَانُ الْمُبِينُ: مَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى وَقِيلَ: هُمَا جَمِيعًا عِبَارَةٌ عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ، أَيْ: أَرْسَلْنَاهُ بِمَا يَجْمَعُ وَصْفَ كَوْنِهِ آيَةً وَكَوْنِهِ سُلْطَانًا مُبِينًا وَقِيلَ: إِنَّ السُّلْطَانَ الْمُبِينَ: مَا أَوْرَدَهُ مُوسَى عَلَى فرعون في المحاورة بينهما إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أَيْ: أَرْسَلْنَاهُ بِذَلِكَ إِلَى هَؤُلَاءِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَلَأَ أَشْرَافُ الْقَوْمِ، وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ دُونَ سَائِرِ الْقَوْمِ، لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ لَهُمْ فِي الْإِصْدَارِ وَالْإِيرَادِ، وَخَصَّ هَؤُلَاءِ الْمَلَأَ دُونَ فِرْعَوْنَ بقوله: فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ أي: أمره لَهُمْ بِالْكُفْرِ، لِأَنَّ حَالَ فِرْعَوْنَ فِي الْكُفْرِ أَمْرٌ وَاضِحٌ، إِذْ كُفْرُ قَوْمِهِ مِنَ الْأَشْرَافِ وَغَيْرِهِمْ إِنَّمَا هُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى كُفْرِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِأَمْرِ فِرْعَوْنَ:
شَأْنُهُ وَطَرِيقَتُهُ، فَيَعُمَّ الْكُفْرَ وَغَيْرَهُ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أَيْ: لَيْسَ فِيهِ رُشْدٌ قَطُّ، بَلْ هُوَ غَيٌّ وَضَلَالٌ، وَالرَّشِيدُ بِمَعْنَى: الْمُرْشِدِ، وَالْإِسْنَادُ مَجَازِيٌّ، أَوْ بِمَعْنَى ذِي رُشْدٍ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الرُّشْدَ فِي أَمْرِ مُوسَى يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنْ قَدِمَهُ بِمَعْنَى تَقَدَّمَهُ، أَيْ: يَصِيرُ مُتَقَدِّمًا لهم يوم القيامة سابقا لهم إِلَى عَذَابِ النَّارِ كَمَا كَانَ يَتَقَدَّمُهُمْ فِي الدُّنْيَا فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ أَيْ: إِنَّهُ لَا يَزَالُ مُتَقَدِّمًا لَهُمْ وَهُمْ يَتْبَعُونَهُ حَتَّى يُورِدَهُمُ النَّارَ وَعَبَّرَ بِالْمَاضِي: تَنْبِيهًا عَلَى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، ثُمَّ ذَمَّ الْوِرْدَ الَّذِي أَوْرَدَهُمْ إِلَيْهِ، فَقَالَ: وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ لِأَنَّ الْوَارِدَ إِلَى الْمَاءِ الَّذِي يقال له: الورد، إنما يرده ليطفىء حَرَّ الْعَطَشِ، وَيُذْهِبَ ظَمَأَهُ، وَالنَّارُ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَمَّهُمْ بَعْدَ ذَمِّ الْمَكَانِ الَّذِي يَرِدُونَهُ، فَقَالَ: وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً
أَيْ: أُتْبِعَ قَوْمُ فِرْعَوْنَ مُطْلَقًا، أَوِ الْمَلَأُ خَاصَّةً، أَوْ هُمْ وَفِرْعَوْنُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً عَظِيمَةً، أَيْ: طَرْدًا وَإِبْعَادًا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَيْ: وَأُتْبِعُوا لَعْنَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَلْعَنُهُمْ أَهْلُ الْمَحْشَرِ جَمِيعًا، ثُمَّ إِنَّهُ جَعَلَ اللَّعْنَةَ رِفْدًا لَهُمْ، عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ، فَقَالَ: بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ. قَالَ الْكِسَائِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: رَفَدْتُهُ، أَرْفِدُهُ، رِفْدًا: أَمَّنْتُهُ وَأَعْطَيْتُهُ، وَاسْمُ الْعَطِيَّةِ: الرِّفْدُ، أَيْ: بِئْسَ الْعَطَاءُ وَالْإِعَانَةُ مَا أَعْطَوْهُمْ إِيَّاهُ، وَأَعَانُوهُمْ بِهِ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، أَيْ: رِفْدُهُمْ، وَهُوَ اللَّعْنَةُ الَّتِي أُتْبِعُوهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَأَنَّهَا لَعْنَةٌ بَعْدَ لَعْنَةٍ تَمُدُّ الْأُخْرَى الْأُولَى وَتُؤَبِّدُهَا. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ حِكَايَةً عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّ الرَّفْدَ بِالْفَتْحِ: الْقَدَحُ، وَبِالْكَسْرِ: مَا فِيهِ مِنَ الشَّرَابِ فَكَأَنَّهُ ذَمَّ مَا يَسْتَقُونَهُ فِي النَّارِ، وَهَذَا أَنْسَبُ بِالْمَقَامِ، وَقِيلَ: إِنَّ الرِّفْدَ: الزِّيَادَةُ، أَيْ: بِئْسَ مَا يُرْفَدُونَ بِهِ بَعْدَ الْغَرَقِ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ أَيْ: مَا قَصَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَمَا فَعَلُوهُ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ، أَيْ: هُوَ مقصوص عليك خبر بَعْدَ خَبَرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْقَصَصِ، وَالضَّمِيرُ فِي: مِنْهَا، عَائِدٌ إِلَى الْقُرَى، أَيْ: مِنَ الْقُرَى قَائِمٌ، وَمِنْهَا حَصِيدٌ، وَالْقَائِمُ: مَا كَانَ قَائِمًا عَلَى عُرُوشِهِ، وَالْحَصِيدُ: مَا لَا أَثَرَ لَهُ وَقِيلَ: الْقَائِمُ: الْعَامِرُ، وَالْحَصِيدُ: الْخَرَابُ وقيل: القائم: القرى الخاوية على عُرُوشِهَا، وَالْحَصِيدُ: الْمُسْتَأْصَلُ بِمَعْنَى مَحْصُودٍ، شَبَّهَ الْقُرَى بِالزَّرْعِ الْقَائِمِ عَلَى سَاقِهِ وَالْمَقْطُوعِ، قَالَ الشَّاعِرُ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute