كَانَ كَثِيرَ الذِّئَابِ، وَلَوْ خَافَ مِنْهُمْ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتُلُوهُ لَأَرْسَلَ مَعَهُمْ مَنْ يَحْفَظُهُ. قَالَ ثَعْلَبٌ: وَالذِّئْبُ مَأْخُوذٌ مِنْ تَذَأَّبَتِ الرِّيحُ إِذَا هَاجَتْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. قَالَ: وَالذِّئْبُ مَهْمُوزٌ لِأَنَّهُ يَجِيءُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَقَدْ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِالْهَمْزِ عَلَى الْأَصْلِ، وَكَذَلِكَ أَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ لِاشْتِغَالِكُمْ بِالرَّتْعِ وَاللَّعِبِ، أَوْ لِكَوْنِهِمْ غَيْرَ مُهْتَمِّينَ بِحِفْظِهِ قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ اللَّامُ هِيَ الْمُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ. وَالْمَعْنَى: وَاللَّهِ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَالْحَالُ إِنْ نَحْنُ عُصْبَةٌ أَيْ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، عَشَرَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ أَيْ: إِنَّمَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهُوَ أَكْلُ الذِّئْبِ لَهُ لَخَاسِرُونَ هَالِكُونَ ضَعْفًا وَعَجْزًا، أَوْ مُسْتَحِقُّونَ لِلْهَلَاكِ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِنَا، وَانْتِفَاءِ الْقُدْرَةِ عَلَى أَيْسَرِ شَيْءٍ وَأَقَلِّهِ، أَوْ مُسْتَحِقُّونَ لِأَنَّ يُدْعَى عَلَيْنَا بِالْخَسَارِ وَالدَّمَارِ وَقِيلَ: لَخاسِرُونَ لَجَاهِلُونَ حَقَّهُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ جَوَابُ الْقَسَمِ الْمُقَدَّرِ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ وَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْغَيَابَةِ وَالْجُبِّ قَرِيبًا، وَجَوَابُ لَمَّا مَحْذُوفٌ لِظُهُورِهِ وَدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ:
فَعَلُوا بِهِ مَا فَعَلُوا وَقِيلَ: جَوَابُهُ قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وقيل: والجواب الْمُقَدَّرُ جَعَلُوهُ فِيهَا، وَقِيلَ: الْجَوَابُ أَوْحَيْنَا وَالْوَاوُ مُقْحَمَةٌ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ- وَنادَيْناهُ «١» أَيْ:
نَادَيْنَاهُ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَيْ: إِلَى يُوسُفَ تَيْسِيرًا لَهُ، وَتَأْنِيسًا لِوَحْشَتِهِ مَعَ كَوْنِهِ صَغِيرًا اجْتَمَعَ عَلَى إِنْزَالِ الضَّرَرِ بِهِ عَشَرَةُ رِجَالٍ مِنْ إِخْوَتِهِ، بِقُلُوبٍ غَلِيظَةٍ فَقَدْ نُزِعَتْ عَنْهَا الرَّحْمَةُ، وَسُلِبَتْ مِنْهَا الرَّأْفَةُ، فَإِنَّ الطَّبْعَ الْبَشَرِيَّ يأبى ذلك. وإن كان قد وقع منه خطأ فدع عنك الدين يتجاوز عن ذنب الصغير ويغفره لِضَعْفِهِ عَنِ الدَّفْعِ وَعَجْزِهِ عَنْ أَيْسَرِ شَيْءٍ يُرَادُ مِنْهُ، فَكَيْفَ بِصَغِيرٍ لَا ذَنْبَ لَهُ، بل كيف بصغير هو أخ لهم وله أَبٌ مِثْلَ يَعْقُوبَ، فَلَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ قَالَ إِنَّهُمْ كَانُوا أَنْبِيَاءَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَمَا هَكَذَا عَمَلُ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا فِعْلُ الصَّالِحِينَ. وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُوحِيَ اللَّهُ إِلَى مَنْ كَانَ صَغِيرًا وَيُعْطِيَهُ النُّبُوَّةَ حِينَئِذٍ، كَمَا وَقَعَ فِي عِيسَى وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ فِي ذَلِكَ الوقت قد بلغ مبالغ الرِّجَالِ، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا، فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَدْ بَلَغَ مَبَالِغَ الرِّجَالِ لَا يُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا أَيْ لَتُخْبِرَنَّ إِخْوَتَكَ بِأَمْرِهِمْ هَذَا الَّذِي فَعَلُوهُ مَعَكَ بَعْدَ خُلُوصِكَ مِمَّا أَرَادُوهُ بِكَ مِنَ الْكَيْدِ، وَأَنْزَلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الضَّرَرِ، وَجُمْلَةُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ أَيْ: لَا يَشْعُرُونَ بِأَنَّكَ أَخُوهُمْ يُوسُفَ لِاعْتِقَادِهِمْ هَلَاكَكَ بِإِلْقَائِهِمْ لَكَ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ، وَلِبُعْدِ عَهْدِهِمْ بِكَ، وَلِكَوْنِكَ قَدْ صِرْتَ عِنْدَ ذَلِكَ فِي حَالٍ غَيْرِ مَا كُنْتَ عَلَيْهِ وَخِلَافَ مَا عَهِدُوهُ مِنْكَ، وَسَيَأْتِي مَا قَالَهُ لَهُمْ عِنْدَ دُخُولِهِمْ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ صَارَ إِلَيْهِ مُلْكُ مصر. قوله: وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ عِشَاءً مُنْتَصِبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وهو آخر النهار، وقيل: في الليل ويبكون فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: بَاكِينَ أَوْ مُتَبَاكِينَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَبْكُوا حَقِيقَةً، بَلْ فَعَلُوا فِعْلَ مَنْ يَبْكِي تَرْوِيجًا لِكَذِبِهِمْ وَتَنْفِيقًا لِمَكْرِهِمْ وَغَدْرِهِمْ، فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ أَيْ: نَتَسَابَقُ فِي الْعَدْوِ أَوْ فِي الرَّمْيِ وَقِيلَ: نَنْتَضِلُ، وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ «نَنْتَضِلُ» قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهُوَ نَوْعٌ من المسابقة. وقال الأزهري: النضال في السهام،
(١) . الصافات: ١٠٣- ١٠٤.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute