للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقِيلَ: حِضْنَ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ. أَكْبَرْنَ بِمَعْنَى حِضْنَ، وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ يُقَالُ: أَكْبَرَتِ الْمَرْأَةُ أَيْ:

دَخَلَتْ فِي الْكِبَرِ بِالْحَيْضِ، وَقَعَ مِنْهُنَّ ذَلِكَ دَهَشًا وَفَزَعًا لِمَا شَاهَدْنَهُ مِنْ جَمَالِهِ الْفَائِقِ، وَحُسْنِهِ الرَّائِقِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

نَأْتِي النِّسَاءَ عَلَى أَطْهَارِهِنَّ وَلَا ... نَأْتِي النِّسَاءَ إِذَا أَكْبَرْنَ إِكْبَارًا

وَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ، وَقَالُوا: لَيْسَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ أَكْبَرْنَهُ وَلَا يُقَالُ حِضْنَهُ، فَلَيْسَ الْإِكْبَارُ بِمَعْنَى الْحَيْضِ. وَأَجَابَ الْأَزْهَرِيُّ فَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَاءَ الْوَقْفِ لَا هَاءَ الْكِنَايَةِ.

وَقَدْ زُيِّفَ هَذَا بِأَنَّ هَاءَ الْوَقْفِ تَسْقُطُ فِي الْوَصْلِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّ الْهَاءَ كِنَايَةٌ عَنْ مَصْدَرِ الْفِعْلِ، أَيْ:

أَكْبَرْنَ إِكْبَارًا بِمَعْنَى حِضْنَ حَيْضًا وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ أَيْ: جَرَحْنَهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْقَطْعُ الَّذِي تَبِينُ مِنْهُ الْيَدُ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ الْخَدْشُ وَالْحَزُّ، وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ كَمَا قَالَ النَّحَّاسُ: يُقَالُ: قَطَعَ يَدَ صَاحِبِهِ إِذَا خَدَشَهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِأَيْدِيَهُنَّ هُنَا: أَنَامِلُهُنَّ، وَقِيلَ: أَكْمَامُهُنَّ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ يُوسُفُ عَلَيْهِنَّ أَعْظَمْنَهُ وَدُهِشْنَ وَرَاعَهُنَّ حُسْنُهُ حَتَّى اضْطَرَبَتْ أَيْدِيهِنَّ، فَوَقَعَ الْقَطْعُ عَلَيْهَا وَهُنَّ فِي شُغْلٍ عَنْ ذَلِكَ بِمَا دَهَمَهُنَّ مِمَّا تَطِيشُ عِنْدَهُ الْأَحْلَامُ، وَتَضْطَرِبُ لَهُ الْأَبْدَانُ، وَتَزُولُ بِهِ الْعُقُولُ وَقُلْنَ حَاشَا لِلَّهِ كَذَا قَرَأَ أبو عمرو ابن الْعَلَاءِ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي حَاشَا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِحَذْفِهَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ «حَاشْ لِلَّهِ» بِإِسْكَانِ الشِّينِ. وروي عنه أنه قرأ «حاش الإله» ، وقرأ ابن مسعود وأبيّ «حاشا الله» . قَالَ الزَّجَّاجُ: وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الْحَاشِيَةِ بِمَعْنَى النَّاحِيَةِ، تَقُولُ: كُنْتُ فِي حَاشِيَةِ فُلَانٍ، أَيْ: فِي نَاحِيَتِهِ، فَقَوْلُكَ: حَاشَا لِزَيْدٍ مِنْ هَذَا، أَيْ: تَبَاعَدَ مِنْهُ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هُوَ مِنَ الْمُحَاشَاةِ، وَقِيلَ: إِنَّ حَاشَ حَرْفٌ. وَحَاشَا فِعْلٌ، وَكَلَامُ أَهْلِ النَّحْوِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَعْرُوفٌ، وَمَعْنَاهَا هُنَا التَّنْزِيهُ، كَمَا تَقُولُ: أَسَى الْقَوْمُ حَاشَا زَيْدًا، فَمَعْنَى حَاشَا لِلَّهِ: بَرَاءَةٌ لِلَّهِ وَتَنْزِيهٌ لَهُ. قَوْلُهُ: مَا هَذَا بَشَراً إِعْمَالُ «مَا» عَمَلَ لَيْسَ هِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَبِهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ كَهَذِهِ الْآيَةِ، وَكَقَوْلِهِ سبحانه: ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ، وَأَمَّا بَنُو تَمِيمٍ فَلَا يُعْمِلُونَهَا عَمَلَ لَيْسَ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: أَصْلُهُ مَا هَذَا بِبَشَرٍ، فَلَمَّا حُذِفَتِ الْبَاءُ انْتَصَبَ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى ثعلب: إذا قلت ما زيد بِمُنْطَلِقٍ، فَمَوْضِعُ الْبَاءِ مَوْضِعُ نَصْبٍ، وَهَكَذَا سَائِرُ حُرُوفِ الْخَفْضِ. وَأَمَّا الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَجُمْهُورُ النَّحْوِيِّينَ فَقَدْ أَعْمَلُوهَا عَمَلَ لَيْسَ، وَبِهِ قَالَ الْبَصْرِيُّونَ، وَالْبَحْثُ مُقَرَّرٌ فِي كُتُبِ النَّحْوِ بِشَوَاهِدِهِ وَحُجَجِهِ، وَإِنَّمَا نَفَيْنَ عَنْهُ الْبَشَرِيَّةَ لِأَنَّهُ قَدْ بَرَزَ فِي صُورَةٍ قَدْ لَبِسَتْ مِنَ الْجَمَالِ الْبَدِيعِ مَا لَمْ يُعْهَدْ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ، وَلَا أَبْصَرَ الْمُبْصِرُونَ مَا يُقَارِبُهُ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ الْبَشَرِيَّةِ ثُمَّ لَمَّا نَفَيْنَ عَنْهُ الْبَشَرِيَّةَ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ أَثْبَتْنَ لَهُ الْمَلَكِيَّةَ وَإِنْ كُنَّ لَا يَعْرِفْنَ الْمَلَائِكَةَ لَكِنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الطِّبَاعِ أَنَّهُمْ عَلَى شَكْلٍ فَوْقَ شَكْلِ الْبَشَرِ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ، وَأَنَّهُمْ فَائِقُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، كَمَا تَقَرَّرَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ عَلَى الْعَكْسِ من ذلك، ومن هذا قول الشاعر «١» :


(١) . قال ابن السيرافي: هو أبو وجزة يمدح عبد الله بن الزبير. وقال أبو عبيدة: هو لرجل من عبد القيس، جاهلي يمدح بعض الملوك (لسان العرب) .

<<  <  ج: ص:  >  >>