الْقَائِلَ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ هُوَ الْمُنَادِي، وَإِنَّمَا نُسِبَ الْقَوْلُ إِلَى الْجَمَاعَةِ لِكَوْنِهِ وَاحِدًا مِنْهُمْ، ثُمَّ رَجَعَ الْكَلَامُ إِلَى نِسْبَةِ الْقَوْلِ إِلَى الْمُنَادِي وَحْدَهُ لِأَنَّهُ الْقَائِلُ بِالْحَقِيقَةِ قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ التَّاءُ بَدَلٌ مِنْ وَاوِ الْقَسَمِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: مِنَ الْبَاءِ، وَقِيلَ: أَصْلٌ بِنَفْسِهَا، وَلَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى هَذَا الِاسْمِ الشَّرِيفِ دُونَ سَائِرِ أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ دَخَلَتْ نَادِرًا عَلَى الرَّبِّ، وَعَلَى الرَّحْمَنِ، وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا مُسْتَوْفًى فِي عِلْمِ الْإِعْرَابِ وَجَعَلُوا الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ هُوَ عِلْمُ يُوسُفَ وَأَصْحَابِهِ بِنَزَاهَةِ جَانِبِهِمْ وَطَهَارَةِ ذَيْلِهِمْ عَنِ التَّلَوُّثِ بِقَذَرِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ الَّذِي مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِهِ السَّرِقَةُ، لِأَنَّهُمْ قَدْ شَاهَدُوا مِنْهُمْ فِي قُدُومِهِمْ عَلَيْهِ الْمَرَّةَ الْأَوْلَى، وَهَذِهِ الْمَرَّةَ مِنَ التَّعَفُّفِ وَالزُّهْدِ عَمَّا هُوَ دُونَ السَّرِقَةِ بِمَرَاحِلَ مَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ الْعِلْمُ الْجَازِمُ بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَنْ يَتَجَارَأُ عَلَى هَذَا النَّوْعِ الْعَظِيمِ مِنْ أَنْوَاعِ الْفَسَادِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا رَدُّهُمْ لِبِضَاعَتِهِمُ الَّتِي وَجَدُوهَا فِي رِحَالِهِمْ.
وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ هُنَا أَرْضُ مِصْرَ، ثُمَّ أَكَّدُوا هَذِهِ الْجُمْلَةَ الَّتِي أَقْسَمُوا بِاللَّهِ عليها بقوله: وَما كُنَّا سارِقِينَ لزيادة التبرّي ممّا قذفوهم بِهِ، وَالتَّنَزُّهِ عَنْ هَذِهِ النَّقِيصَةِ الْخَسِيسَةِ وَالرَّذِيلَةِ الشَّنْعَاءِ قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي نَظَائِرِهَا، وَالْقَائِلُونَ هُمْ أَصْحَابُ يُوسُفَ، أَوِ الْمُنَادِي مِنْهُمْ وَحْدَهُ كَمَا مَرَّ، وَالضَّمِيرُ فِي جَزاؤُهُ لِلصُّوَاعِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: فَمَا جَزَاءُ سَرِقَةِ الصُّوَاعِ عِنْدَكُمْ، أَوِ الضَّمِيرُ لِلسَّارِقِ أَيْ: فَمَا جَزَاءُ سَارِقِ الصُّوَاعِ عِنْدَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ فِيمَا تَدَّعُونَهُ لِأَنْفُسِكُمْ مِنَ الْبَرَاءَةِ عَنِ السَّرِقَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُوجَدَ الصُّوَاعُ مَعَكُمْ، فأجاب إخوة يوسف وقالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ أَيْ جَزَاءُ سَرِقَةِ الصُّوَاعِ أَوْ جَزَاءُ سَارِقِ الصّواع وجزاؤه مُبْتَدَأٌ، وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ: وَهِيَ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ عَلَى إِقَامَةِ الظَّاهِرِ مَقَامَ الْمُضْمَرِ فِيهَا، وَالْأَصْلُ جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ الثَّانِي عائد إِلَى الْمُبْتَدَأِ، وَالْأَوَّلُ إِلَى مَنْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: جَزَاءُ السَّرِقَةِ لِلصُّوَاعِ أَخْذُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ فَهُوَ جَزَاؤُهُ لِتَأْكِيدِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى وَتَقْرِيرِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَقَوْلُهُ: فَهُوَ جَزاؤُهُ زِيَادَةٌ فِي الْبَيَانِ أَيْ جَزَاؤُهُ أَخْذُ السَّارِقِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ لَا غَيْرَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَكَانَ حُكْمُ السَّارِقِ فِي آلِ يَعْقُوبَ أَنْ يُسْتَرَقَّ سَنَةً، فَلِذَلِكَ اسْتَفْتَوْهُمْ فِي جَزَائِهِ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ الْكَامِلِ نَجْزِي الظَّالِمِينَ لِغَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ بِسَرِقَةِ أَمْتِعَتِهِمْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُؤَكِّدَةٌ لِمَا قَبْلَهَا إِذَا كَانَتْ مِنْ كَلَامِ إِخْوَةِ يُوسُفَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ أَصْحَابِ يُوسُفَ، أَيْ: كَذَلِكَ نَحْنُ نَجْزِي الظَّالِمِينَ بِالسَّرَقِ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرُوا جَزَاءَ السَّارِقِ أَرَادُوا أَنْ يُفَتِّشُوا أَمْتِعَتَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْأَمْرُ، فَأَقْبَلَ يُوسُفُ عَلَى ذَلِكَ فَبَدَأَ بِتَفْتِيشِ أَوْعِيَتِهِمْ أَيْ أَوْعِيَةِ الْإِخْوَةِ الْعَشَرَةِ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ أَيْ قَبْلَ تَفْتِيشِهِ لِوِعَاءِ أَخِيهِ بِنْيَامِينَ دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ وَرَفْعًا لِمَا دَبَّرَهُ مِنَ الْحِيلَةِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها أَيِ السِّقَايَةَ أَوِ الصُّوَاعَ، لِأَنَّهُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْكَيْدِ الْعَجِيبِ كِدْنَا لِيُوسُفَ يَعْنِي عَلَّمْنَاهُ إياه وأوحيناه إِلَيْهِ، وَالْكَيْدُ مَبْدَؤُهُ السَّعْيُ فِي الْحِيلَةِ وَالْخَدِيعَةِ، وَنِهَايَتُهُ إِلْقَاءُ الْمَخْدُوعِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ فِي أَمْرٍ مَكْرُوهٍ لَا سَبِيلَ إِلَى دَفْعِهِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ فِي حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى النهاية لا على البداية. قال القتبيّ:
مَعْنَى كِدْنَا دَبَّرْنَا. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَرَدْنَا. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّوَصُّلِ إِلَى الْأَغْرَاضِ الصَّحِيحَةِ بِمَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute